إسرائيل والعرب... ولعبة 'التعويض'!
بدأ الإسرائيليون يتهيأون للمرحلة
الجديدة من الصراع مع الفلسطينيين والعرب، بنقل هذا الصراع إلى جبهة جديدة مفتعلة
وخلط الأوراق وكسب الزمن، اللعبة المفضلة لدى اليهود. فقد أخذ الحديث يدور حول
أملاك اليهود في البلدان العربية التي هاجروا منها إلى إسرائيل خلال العقود
الماضية منذ قيام الدولة العبرية في فلسطين عام 1948، ودفع تعويضات لهم عن مختلف
الأملاك والعقارات والأموال التي يقول اليهود أنهم تركوها أو أُكرهوا على التخلي
عنها أو "سرقت" منهم أو صودرت منهم بمقتضى قوانين الحكومات العربية.
ومن الواضح أن الإحتلال الأمريكي
والبريطاني للعراق قد فتح شهية اليهود الذين سارعوا إلى جني مكاسب الوضع الجديد
تحت عناوين مختلفة، وأخذ اليهود من أصل عراقي يتقاطرون على البلد المحتل للتذكير
بأنهم أصحاب أملاك قديمة تركوها لدى هجرتهم إلى الكيان الصهيوني. وتزعم الحكومة
الإسرائيلية أن حجم الممتلكات اليهودية في العراق يصل إلى مليار دولار، وأن
البرلمان العراقي إتخذ عام 1951 قرارا يسمح لليهود العراقيين بالتنازل عن حقهم في
المواطنة وبيع أملاكهم والمغادرة إلى إسرائيل، وتحت هذا القناع يسعى يهود العراق
إلى الحصول على حصتهم من الكعك العراقي بعد الإحتلال وتحت حماية الأمريكان.
بداية طرح القضية:
ولكن موضوع التعويض لليهود العرب ليس
جديدا بأي حال، لقد ظهر في بداية الخمسينيات ودولة إسرائيل في فلسطين في بدايتها
كنقطة ارتكاز يمكن المتاجرة بها وإبتزاز الدول العربية والفلسطينيين إذا ما طرحت
قضية عودة أو تعويض اللاجئين الفلسطينيين لاحقا، لذا جاءت محاولة إسرائيلية
للتحايل على القانون الدولي حول حق العودة للفلسطينيين إلى أراضيهم وممتلكاتهم.
ومنذ ذلك التاريخ عمل اليهود على
تحريك القضية كلما طرحت قضية العودة، والسكوت عليها كلما غاب الحديث عن هذا
الموضوع في المباحثات الفلسطينية - الإسرائيلية.
وقد طرحت هذه القضية بداية عام 1951،
أسابيع بعد قرار البرلمان العراقي الذي خير اليهود العراقيين بين الإقامة في
العراق أو الهجرة، حين تحدث وزير خارجية إسرائيل آنذاك موشيه شاريت عن فكرة مبادلة
أملاك اليهود العرب بأملاك الفلسطينيين فقال أمام الكنيست الإسرائيلي:"هناك
حساب بيننا وبين العالم العربي وهو حساب التعويضات التي يستحقها العرب الذين
غادروا أرض إسرائيل تاركين أموالهم، والعمل الذي قامت به المملكة العراقية اليوم
يجبرنا أن نضع الحسابين واحدا مقابل الآخر، قيمة الأملاك اليهودية المجمدة في
العراق ستؤخذ من قبلنا بالحسبان عندما نتحدث عن التعويضات التي التزمنا بدفعها
للعرب الذين تركوا أموالهم في إسرائيل". وقد تشكلت بالفعل لجنة أطلق عليها
"لجنة تسجيل مطالب اليهود العراقيين" لتسجيل ممتلكات اليهود العراقيين
عام 1955 لتقييمها، لكن اللجنة توقفت عن الإشتغال بعد ردود فعل رافضة لذلك في صفوف
اليهود، تقول بأن الرفع من ممتلكات اليهود العراقيين سوف يدفع الفلسطينيين إلى فعل
الشيئ نفسه!.
وخلال العقود التالية غاب الموضوع
ليعود إلى الواجهة خلال فترة بنيامين نتنياهو في إسرائيل وبيل كلينتون في الولايات
المتحدة الأمريكية. فتشكلت عام 1999 "اللجنة الدولية ليهود الدول
العربية" التي كان يرأسها عميران إتياس اليهودي المغربي الذي هاجر إلى
إسرائيل عام 1963 وحمل على عاتقه قيادة حملة دولية من أجل هذه القضية، حيث أسس في
البداية "الفيدرالية
السفاردية الأمريكية" التي فتحت لها مقرين في إسرائيل والولايات المتحدة
الأمريكية، ثم حصل على المساعدة من "الكونغريس اليهودي العالمي" فأسسا
معا اللجنة المذكورة، وقال إتياس في معرض الحديث عن أهداف اللجنة :"نحن نريد
أن تطلب إسرائيل في المفاوضات إعادة أملاكنا إلينا، ونحن لسنا ضد الفلسطينيين
ولكننا لن نوافق على أن يقولوا إن أملاكنا ليست من شأنهم وأنهم سيحيلون الطلب
إسرائيل إلى حكومة المغرب أو حكومة العراق، نحن نرى أن الفلسطينيين جزء من الأمة
العربية وهكذا يتحدثون عن أنفسهم دائما، فإذا كانوا جزءا من الأمة العربية فهم إذن
يتحملون المسؤولية عن الأملاك التي تركناها في الدول العربية، الفلسطينيون تركوا
أو طردوا ونحن أيضا تركنا أو طردنا، ومقابل كل بيت سيطلبونه يجب أن نطالب يبيت لنا
ومقابل كل مسجد سنطالب بكنيس ومقابل كل مقبرة سنطلب بمقبرتنا".
تعويض يهود شبه الجزيرة!!
وقد وزعت اللجنة المذكورة استبيانا
على اليهود من أصل عربي في إسرائيل وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تحت
اسم "أملاك اليهود التي تركت في الدول العربية"، تضمن ثلاثة أجزاء، في
الجزء الأول طلب من المستطلعين تسجيل أسمائهم وعناوينهم "كما كانت في بلد
المنشإ" و"عدد الأشخاص في العائلة أثناء الهجرة". وفي الجزء الثاني
طلب منهم إعطاء تفصيل كثيرة قدر المستطاع حول الأملاك التي تعود إلى الطائفة
اليهودية في مناطق سكناهم بالبلدان العربية قبل الهجرة، كالكنس والمعاهد الدينية
وكتب التوراة والمدارس والمستشفيات. أما القسم الثالث فقد تضمن الإشارة إلى
الأملاك الشخصية لكل يهودي كالحسابات التي كانت المودعة في البنوك والعقارات
والأموال والمجوهرات. وزعمت اللجنة أن عدد اليهود الذين غادروا البلدان العربية
يقدر بمليون شخص، وأنهم تركوا وراءهم 200 ألف بيت وما قيمته أغلبها في المغرب
والعراق ومصر وتونس والجزائر وسورية واليمن وليبيا ولبنان، وقال رئيس اللجنة
عميرام إتياس، إن يهود العراق كانوا سيطرون على 80% من
الإقتصاد العراقي أي ما قيمته 100 مليار دولار حسب تعبيره، بينما تقدر قيمة يهود
مصر بـ 60 مليار دولار. ولا تتوقف اللجنة عند هذا الحد، بل تزعم بأن اليهود تعرضوا
للمذابح الجماعية في العراق وسورية وأعمال قتل في المغرب ومصر، إمعانا في تضخيم
الملف وإحكام قبضة الإبتزاز. ولكن الأخطر من ذلك ما صرح به الأديب الهندوسي
"س.ف.نايبول" الفائز بجائزة نوبل للآداب بعد تفجيرات 11 سبتمر 2001 في
الولايات المتحدة الأمريكية بأن على المملكة العربية السعودية أن تدفع لإسرائيل
تعويضات عما تعرض له اليهود في شبه الجزيرة العربية على أيدي المسلمين!!!.
وقد تحمس الرئيس الأمريكي السابق بيل
كلينتون للفكرة خلال فترة حكم بنيامين نتنياهو بعد إنخراط كلينتون في وضع آلية
لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بسبب الدعاية الضخمة التي أحيطت بها القضية
في الإعلام الأمريكي المدعوم من اللوبي اليهودي الأمريكي، وكذلك بسبب التقارب بين
كلينتون والتصورات الصهيونية الإسرائيلية، فاقترح كلينتون إنشاء صندوق دولي لمنح
التعويضات للفلسطينيين واليهود العرب معا، بهدف تهريب قضية اللاجئين الفلسطينيين
وحق العودة وإبتزاز الأموال العربية والأوروبية، إذ أن ذلك سيعفي إسرائيل من العبء
ويلقيه على كاهل الآخرين، وفي نفس الوقت يضيق على العرب والفلسطينيين دائرة
المناورة.
لماذا الحملة الآن؟
وبعد غزو العراق وبداية الحديث عن
المشروع الشرق أوسطي الجديد ووضع ورقة"خارطة الطريق"، وعودة موضوع
اللاجئين الفلسطينيين إلى الصدارة كإحدى القضايا الكبرى في الصراع الفلسطيني
الإسرائيلي المتروكة إلى"المرحلة النهائية"، أخرجت الحكومة الإسرائيلية
هذا الملف لتطرحه مجددا بغرض إرباك العرب والفلسطينيين ودفعهم إلى التخلي عن فكرة حق
العودة نهائيا، إذ الواضح أن هذه القضية تحير الإسرائيليين ويريدون الحسم فيها بأي
شكل، وهو ما طرحه رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون كشرط لتحقق"السلام
الشامل" عندما صرح يوم 13/4/2003 لصحيفة "هآرتس" العبرية ردا على سؤال: هل التنازل عن حق
العودة يجب أن يكون مطروحا منذ البداية؟ فقال "هذا الأمر يجب أن يكون واضحا
منذ البداية"، وهو ما يوضحه أيضا حديث الرئيس الأمريكي جورج بوش في قمة
العقبة يوم 4/6/2003 عن "دولة يهودية تنبض بالحياة" بالتأكيد على الطابع
اليهودي للدولة الإسرائيلية، بما يلغي مبدأ حق العودة للفلسطينيين.
الإستعداد الإسرائيلي لهذه المرحلة
الجديدة من الصراع وشد الحبل مع العرب والفلسطينيين تجلى في الإعلان مؤخرا عن
تأسيس هيئة جديدة في إسرائيل تحمل اسم "العدالة لليهود القادمين من الدول
العربية" لطرح قضية اليهود العرب مقابل قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتنظيم
حملة دولية منسقة لمطالبة الدول العربية بـأداء الفاتورة أو التخلي عن فكرة حق
العودة أو التعويض بالنسبة للفلسطينيين الذي طردوا من أرضهم ونزعت منهم أملاكهم
بمقتضى قانون أملاك الغائبين الإسرائيلي. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد أعلنت قبل
إنتهاء الحرب على العراق في أبريل الماضي أنها ستقوم بإعداد وثيقة بمطلب اليهود
العرب تقدمها إلى الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة للحصول على تعويضات.
إن تاريخ الإبتزاز اليهودي تاريخ
معروف، وهو لعبة أتقنها اليهود جيدا وجنوا من خلالها مكاسب عدة، ماليا وعسكريا
وسياسيا، من ألمانيا وسويسرا وبولندا وغيرها من الدول الأوروبية بدعوى
"الهولوكوست" أو الإبادة النازية لليهود، وبدافع من النجاح الكبير الذي
حققوه بهذه الأسطورة يريدون إستئناف اللعبة مع العرب والفلسطينيين، ولكن الأهداف
هذه المرة مختلفة، إذ المطلوب إسرائيليا بالدرجة الأولى إقناع العرب بأن معركتهم
معها هي نفس معركتها معهم، وأن الفلسطينيين ليسوا وحدهم أصحاب حق بل اليهود أيضا،
ومن تم فإن الحل الأخير هو تخلي العرب عن حقوقهم مقابل تخلي اليهود عن حقوقهم.
إنها لعبة خطرة، ليس مقبولا أن يسكت العرب عنها قبل أن تتضخم كرة الثلج.