بناءُ الذات رحلةٌ جميلة، تتقدمُ فيها كلَّ يوم نحوَ المزيد من معرفتها والقدرة على التحكم بها، عندما تحسنُ بناءَ نفسك فسوف تشعرُ بقوة أكبرَ وقدرةٍ أعلى على مجاراة الحياة والكسب منها.
نفسُك هي مَن ستحاسَب عليها.. هي أقربُ الأشياء إليك وأعزها، وهي الأحق بالعناية والرعاية. لقد قضينا وقتاً طويلاً ونحن نقدر قيمة الناس ونحكم عليهم وننتقدهم. لقد حان الوقتُ لكي نقف وننظر إلى أقربَ من ذلك.. إلى أنفسنا، وفي سبيل المزيد من التحكم والتطوير
سنتدرب اليومَ على أربعِ تقنيات نفسيةٍ أثبتت فعاليتها:
أولاً: الحديثُ مع النفس:
دعونا نتذكرُ أننا نتحدثُ إلى أنفسنا في كل لحظة، فإذا لم تكن تتحدث مع أحد فأنت تتحدث مع نفسك. ومع الأسف فإن معظمَ حديثنا مع أنفسنا هو حديث سلبي: (انظر أين وصل فلانٌ، وأين أنت الآن؟! كم أنا غبي! أوه! لو قلتُ كذا، أو فعلتُ كذا، أو امتلكتُ كذا..)، وهكذا سلسلةٌ من الحوار الداخلي السلبي الذي يحطم فينا كلَّ طموح وأمل.. التقنية التي أود منك أن تتدرب عليها هي أن تقتطع كل يوم وقتًا قصيرًا وتتحدث إلى نفسك بطريقة مختلفة.. في الغد عندما تستيقظُ صباحاً وبعد أن تغسل وجهَك، قِفْ أمام المرآة وأرسل لنفسك (عبارات التوكيد)، أي رسائل إيجابية توكيدية بصيغة الحاضر مثل: (أنا بخير اليوم، أشعر بالحيوية والنشاط)، (أنا شخص محبوب من زملائي وناجح في علاقاتي مع أسرتي)، (يا للسعادة التي أشعر بها هذه الأيام، الحمد لله على نعمه التي تغمرني). اعتراف بنعم الله المنسية، وشعور بالفخر من الإنجازات التي حققتها ونسيتها. تذكر أن مثل هذه الكلمات لا تذهب في الهواء سدى، بل تعود إلى الداخل لتعزز شعورنا نحو أنفسنا وثقتنا بها.
ثانياً: قوةُ الكلمات:
للكلمات قوةٌ عجيبة في برمجة أنفسنا. عندما يسألُك شخصٌ ما هذا السؤال الروتيني: (كيف حالك؟) لاحظ العبارة التي تستخدمُها. تُرى هل تقول: (ماشي الحال)، (لا بأس). إن كنتَ كذلك ما رأيك أن تدخل تعديلاً صغيراً على ذلك؟ ففي المرة القادمة قل: (على أفضل حال)، (تمام التمام)، (أحسن من كذا ما في!!).. وانفث في كلماتِك رُوحَ التفاؤل والحيوية. وترقب ذلك التغييرَ الرائع الذي ستشعر به في الحال، وبالأثر الذي ستتركه في المستمع إليك. فهذه الإحساسات كما يسميها الأطباءُ (مُعْدِية).
عندما كنت أقول هذه المعاني لمرضاي، كثيراً ما كانوا يقولون: (تريدني أن أكذب؟! أنا لست على أفضل حال). والواقع أنهم تغيبُ عنهم فكرةٌ أساسية. إن الحكمَ على مشاعرنا هو أمر نسبي. فما رأيُك أن تزور إحدى المستشفيات القريبة من منزلك، وخذ جولة في أجنحة أمراض الدم والأعصاب والكبد والأمراض النفسية و.. و.. حينها ستقابلُ أشخاصاً إذا حضر الطعامُ لم يشتهوه، وإذا أكلوه لم يستطيعوا هضمَه، وإذا حل الليلُ لم يستطيعوا النومَ إلا بأقوى المسكنات التي سرعان ما يذهب مفعولُها ليوقظهم الألمُ، واحكم بعد ذلك على نفسك، وما تتقلبُ فيه من نعم ظاهرة وباطنة، ألستَ على أفضل حال؟!!.
هذه الفكرةُ تنطبق أيضاً على وصفنا للألم الذي نشعر فيه، فإذا ابتليت بالصداع يوماً فلاحظ الفرق بين أن تقول: (أشكو من صداع قاتلٍ وألم رهيب!!) وبين أن تقول: (أشعر ببعض الألم في رأسي، لقد أزعجني هذا الصداعُ قليلاً). قال أحد الحكماء: (الكلمةُ التي نلصقها بتجربة ما، تصبح تجربتنا).
جاء في البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد أعرابيًا يتلوى من شدة الحمى، فقال له مواسياً: "طهور"، فقال الأعرابي: بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، لتورده القبور، قال: "فهي إذن".
تذكر أن الكلمات لها مفعولٌ سحري في تغيير مشاعرنا وعالمنا الداخلي، سواء بطريقة أفضل أو بطريقة أسوأ. هذه إحدى الأدوات الفعالة بيدك الآن فاستفد منها.
ثالثاً: قوة الأسئلة:
لقد كشف الحكماءُ القوةَ الهائلة للأسئلة التي نطرحُها على أنفسنا باستمرار؛ فهي من الأدوات الرائعة التي تعمل على توجيه تركيزنا نحوَ الهدف وإطلاق قوانا الداخلية. ولكي أسهل الأمر أكثر تأمل هذه الأسئلة:
- ما الهدفُ الأكثر أهمية عندي؟
- لماذا هذا الهدف مهم عندي؟
- ما العملُ الذي يجب أن أفعله الآن لكي أبدأ في التغيير؟
- ما أهم عائق يقف أمامي في سبيل تحقيق ما أريد؟
- من الشخصُ الأكثر قدرة على مساندتي في التغيير؟
وهكذا كما ترى، تضعُك هذه الأسئلةُ أمامَ التغيير بكل وضوح، وتخرجك من حالة التيه التي يقع فيها كثير من الناس: (أريد أن أتغير، لكن لا أعرف من أين أبدأ؟!). إنها أداة رائعة لمراجعة عملية التغيير، وتوجيهها نحو الوجهة الصحيحة عندما تشعر بأنك ابتعدت عنها.
من يسألُ السؤالَ الصحيح، يجدُ الإجابةَ الصحيحة:
تحدث (أنتوني روبنز) عن قوة الأسئلة في كتابه الرائع (أيقظ قواك الخفية) إذ يقرر: "أن الفرق الأساسي بين الأشخاص الذين حققوا نجاحاً في أي ميدان من الميادين، وأولئك الذين لم يحققوا مثلَ هذا النجاح هو أن الأشخاصَ الناجحين وجهوا أسئلةً أفضل، ومن ثم توصلوا لإجابات أفضل، منحتهم القوةَ لكي يعرفوا ما الذي يجب فعلُه في أية وضعية يجدون أنفسهم فيها".
ومن العبر التي رواها في كتابه هذا أن مؤلفاً مرموقاً أخبره كيف غرس والدُه فيه مهارة إلقاء الأسئلة؛ فقد كان أبوه يسألُه كل يوم وهُما على مائدة العشاء: "ماذا تعلمتَ اليوم يا بني؟" وكان عليه أن يقدم إجابة، وأن تكون إجابتُه مميزة. فإن لم يكن قد تعلم شيئاً يثير الاهتمام في ذلك اليوم، كان يسرع إلى إحدى الموسوعات ليدرس شيئاً مثيراً ليخبر أباه عنه. ومن ذلك الحين لا يذهبُ هذا المؤلف إلى فراشه إلا أن يكون قد تعلم شيئاً جديداً ذا قيمة. وبذلك فإنه يحفز عقله باستمرار. ما رأيُك أن تجرب ذلك مع نفسك ومع أبنائك، ستذهلك النتائج!.
خطوة عملية:
ضع هذه الأسئلةَ في مكان بارز في غرفتك، وجرّب أن تبدأ بها صباحَك بعد ذكر الله، وانتظر نتائجَ باهرة:
- كيف سأخطو اليوم خطوة إلى الأمام في علاقتي مع الله عز وجل؟
- ما أهم هدف يجب أن أحققه هذا اليوم؟
- ما أهم عمل يجب أن أعمله لكي أحقق هذا الهدف؟
- ما العمل الذي سيزيد ثقتي واحترامي لنفسي لو أديته هذا اليوم؟
- ما أفضل توزيع لوقتي هذا اليوم؟
- ما أكثر عمل سيجعلني أشعر بالمتعة هذا اليوم؟
- ما أجمل صفة من صفاتي أود أن أبرزها هذا اليوم؟
- من الشخص الذي سأقوي علاقتي به هذا اليوم؟
رابعاً: قوة التصور:
إحدى الأدوات التي ساعدت الكثير من الناجحين هي قدرتُهم على استخدام التصور، أي تكوين صور خيالية ذهنية واضحة للهدف الذي يودون تحقيقه، ويعيشونه في اللحظة الحاضرة، ويشعرون بما يصاحبه من فرحة وسرور بإنجازهم ذاك. فالطالبُ الذي أرهقته سنواتُ الدراسة الطويلة يستحضر في خياله مقاطعَ صورية لتلك اللحظات السعيدة وقد أنجز تحصيلَه الدراسي وقُبِل في وظيفة مميزة، ويرسم في خياله صوراً لوالديه وهما ينظران إليه بكل فخر واعتزاز بسبب النجاح الذي حققه.
ستساعدُك هذه التقنية في أمرين:
1- رسم أهدافك، ووضع صورة واضحة لما تريد تحقيقه وإنجازه من عملية التغيير. فالأهداف تصنع أولاً في أذهاننا عبر تصوير كل جزء منها، تماماً كما يفعل المهندسُ الذي يضع تصوراً واضحاً لكل جزء من البيت الذي يريد بناءَه قبل أي يضرب مسماراً واحداً. يقول أرسطو: (لا تفكر الروح دون صورة).
2- تحديد المشاعر التي سيجلبها لك تحقيقُ التغيير المنشود، والوضعية الجديدة التي ستكون عليها، والفائدة المرجوة منه. وخذ مثلاً: فلو كان من أهدافك أن تصبح محرراً لمجلة علمية، ستستخدم التصور الخيالي في ذهنك لشكل المجلة، وأسلوب تحريرها، وطريقة عملك وغير ذلك. ومن جهة أخرى ستلمس في ذهنك مشاعر السرور والفرح وأنت ترى العدد الأول واهتمام الناس بالمجلة والفائدة التي حصلوا عليها، وثناءهم على جهدك وإحساسك بالفخر والرضا بما أسديته لمجتمعك وأمتك.
عندما تستخدم هذه التقنية ستستجلب إلى مخيلتك تصوراً كاملاً للعمل الذي تود إنجازه أو التغيير المنشود بالصورة الجميلة والصوت الواضح والمشاعر القوية. وقد شبه (أنتوني روبنز) هذه الوسيلة بعمل المخرج السينمائي. فلكي يصل بالمشاهد إلى الشعور بالخوف يلجأ إلى التحكم بالصوت، وطريقة عرض المشاهد، ويظهر مؤثرات خاصة في اللحظة المناسبة..
ومن أجمل ما قرأت في هذا السياق: كيف استخدم (حاتم الأصم) -رحمه الله وهو أحد التابعين- قوة التصور في تعزيز خشوعه في الصلاة حين تعجب الناس من شدة خشوعه، فقال لهم: (أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن يساري، وملك الموت على رأسي، وأظنها آخر صلاتي..).
هذه أربعُ تقنيات نفسية ستضيفُ إلى شخصيتك الكثير لو أتقنتها.
بقي لي أن أنبه على أمر مهم، وهو أن هذه التقنيات هي مهارات وليست معلومات، وهذا يعني أنك بحاجة إلى الوقت والممارسة لترسيخها والاستفادة منها.. تماماً كقيادة السيارة التي كانت يوماً حلماً وشيئًا مستحيلا، ولكن مع الوقت والممارسة أصبحنا نفعلها بطريقة تلقائية ودون وعي أو تركيز.
من موقع الدكتور طارق سويدان