ليست بطالة وإنما عجز
عندما نسأل أحد الأطفال فى سن العاشرة مثلاً ماذا تريد أن تكون فيسارع بالإجابة دكتور، أو ضابط , وقد يضاف اليوم إلى طموحات أولادنا المغنى ولاعب الكرة , ذلك لأنه لا يعلم إلا هذا , ولم يقدم له المجتمع إلا هذا .
وتمر الأيام وسنوات التعليم التلقينى النظرى , ثم طاحونة الثانوية العامة , فالجامعة سواء الحكومية الفقيرة الإمكانيات أو الخاصة حيث الابتزاز من أجل الشهادة الغير معترف بها غالباً .
ويخرج الشاب أو الفتاة من فوهة التعليم إلى ساحة الحياة، كأنه عصف مأكول ، تم مضغه جيداً وخلط عظمه بلحمه بمخه بقلبه، فأصبح لا ملامح مميزة له يعرف بها من بين أقرانه .
وتبدأ رحلة البحث عن وظيفة فى السوق الذى ما يلتفت الشاب فيه يميناً أو يساراً إلا وجد كلمة البطالة حجر ثقيل على صدره يعوقه عن المسير .
وليجرب أحد أصحاب العمل ويعلن عن وظيفة فى ركن صغير فى أى وسيلة إعلام ولنرى حجم السير الذاتية المتراكم أمامه ثم لينظر أي منهما يصلح له ويحقق رغباته .
وأرى أن المشكلة ليست فى الكمية ولكن فى النوع ، فقد يكتفى المتقدم أو المتقدمة بشهادته الجامعية ظاناً منه أنها مؤهل كاف للعمل ، ويأبى تماماً أن يقدم أي تنازل حتى يحصل على خبرة السوق .
وقد يكتفى الآخر بشكل من أشكال الإقناع الكلامى الذى يظن به أنه كاف للحصول على وظيفة وقد يحصل عليها ولكن لا يمر أسبوع إلا وتنهدم قلاع كلامه أمام الخبرات المطلوبة للعمل .
جاءنى أحدهم وسألته سؤلاً عابراً ما هى الميزة التى تنوى تقدمها فى العمل ، فتح فمه متعجباً فى بادرة عصيبة وقال بفخر إن معى بكالوريوس كذا ، ابتسمت وأنا أحاول بلع عصبيته، وقلت أسألك عن هواياتك، عن شىء تستطيع أن تقول أنا مميز فيه، بدأ يفرك كفيه وقال متلعثماً وما دخل هواياتى بالعمل .
ومع الاندفاع الغير منضبط نحو علوم الكمبيوتر فتحت مئات المعاهد المتوسطة وفوق المتوسطة وتحت المتوسطة والعليا فى مجال علوم الحاسب .
وتدفق إلى سوق العمل آلاف من حاملى شهادة الحاسب فى سوق تصل الأمية الكمبيوترية فيه إلى 90%، والكل لا يجيد أكثر من التعامل مع الألعاب والعبث بالإنترنت بجانب مرض خطير يعتبر من أخطر أمراض الحاسب وهو عدم القدرة على التعامل مع البشر أو ما يسمى فى عالم التنمية البشرية علوم الاتصال .
ذلك بجانب التربية المغلقة أو المفتوحة جداً والتى تنشئ أفراد لا يحسنون اتخاذ القرار أو التفكير الإبداعي أو الابتكار أو التفاوض أو أى مهارة من مهارات التواصل .
فيصبح سوق العمل مفتقر دائماً لذلك الفريق الدءوب الذى يسوق لنا سواء يسوق لنا أفكارنا أو بضاعتنا أو حتى قيمنا وأخلاقنا .
ونظل باستمرار سوق قابل لأفكار وقيم وبضائع الآخرين ، ذلك لأننا لم نربى أو نعلم أولادنا الحياة، كل ما نعلمه لهم هو الثقافة وللأسف الثقافة النظرية التى لا تكسب خبرات وحتى هذه اسألوا عنها ولا حرج فى المسابقات البسيطة التى نراها فى إعلامنا .
وهذا الحديث لا أتمنى أن يقع فى أيدى السياسيين فى وطنى سواء المعارضين أو الحكوميين حتى لا يتحول إلى مهاترات سياسية أو ثمن لشراء كرسي فى برلمان ، ولكن أكتفي أن يقع بين يدى الوالدين فى البيوت الذين يتابعون مقالات ( من الحياة ) .
أقول لكم إنها ليست بطالة وإنما هو العجز ، أقول لكم وبصدق إن الموقع الوظيفى فى شوق شديد لم يجيد ملأه بصدق .
أعيدوا صياغة أولادكم ليستطيعوا مواجهة الحياة ، لن يستطيع أولادنا مواجهة الحياة بمجموعة الكتب المدرسية والتى لا تحوى إلا ثقافة لا طائل منها غالباً .
علموا أولادكم الإبداع والابتكار والتفكير الجاد ، علموهم أن يصيغوا أهدافهم ويخططوا لحياتهم، علموهم فنون الحوار والنقاش وقبول الآخر واستيعاب الاختلاف علموهم التفاوض والتفويض، علموهم فنون البيع وخاصة بيع الأفكار وتسويقها، علموهم كيف يتعرفوا على ذواتهم ويكتشفوا وينموا مواهبهم , علموهم كيف يزرعون الصداقات وينموها ويستثمروها .
أنتم مسئولون عن أولادكم ، ولا عذر لكم بأن نظام التعليم ضعيف أو أن الحكومة مخطئة أو أنها لا توفر فرص العمل .
إن وجود الإنسان والاهتمام به ورفع قدراته وإكسابه المهارات هو أول الطريق لحل الكثير من مشاكلنا .
أقول للوالدين فى البيوت لا تتنازلوا عن واجبكم فى تربية أولادكم ولا تسلموهم لقمة باردة لوسائل الإعلام تفعل بعقولهم وقدراتهم ما تشاء .
و أقول أخيراً لمن يعجز عن النهوض بتربية أولاده ، من يربيهم لك ؟
إنها ليست بطالة ، ولكنها العجز , { والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله } كما قال صلى الله عليه وسلم
وهل ندري جميعاً أن الله سبحانه وتعالى يحاسب على العجز
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ }
( النساء 97 )
د.أكرم رضا