أشرقت شمس الحرية والديمقراطية على مصر بعد غياب دام قرابة ثلاثين عاما.. على يد ثورة جيل جديد من الشباب، خرج من عباءة أجيال ظلت رهينة القرن العشرين بأفكارها وتقاليدها وأنماط حكمها المتخلفة وشخوص سياساتها. فلم يكن ما حدث انقلابا عسكريا كما فى المرات السابقة. ولكنه كان ثورة بيضاء تسلحت بأساليب العصر الحديث.. عصر الفيس بوك وثورة الاتصالات.
قادتها مجموعة من شباب الإنترنت، وما لبثت أن اتسعت دائرتها فانضمت إليها من الطبقة الوسطى فئات من طلبة الجامعة وخريجيها ومن المهنيين والمهنيات. وحين امتلأت الدائرة عن آخرها وانتشرت فى أنحاء البلاد، كانت سائر طبقات الشعب قد انجذبت إليها طواعية، وقد تخلصت من قيود الخنوع والذل والفساد.
ولهذا لم يكن غريبا أن تتحدد أهداف هذه الثورة منذ البداية، بتغيير النظام وليس مجرد الاكتفاء بتغيير الأشخاص والوجوه والأساليب. وهذا ما لم يدركه النظام الراحل. فاستخدم فى البداية ما اعتاد استخدامه من العنف البوليسى المفرط، وتعبئة جماعات البلطجية وعناصر العشوائيات فى ترهيب وإيذاء المتظاهرين.
وعندما لم تفلح هذه الطريقة اضطر إلى التضحية ببعض الوجوه الكئيبة التى سيطرت فى الحزب الحاكم على مقدرات البلاد والعباد. ثم تراجع عن ترشيح نفسه فترة رياسية أخرى وبالتالى عن خطط التوريث.
واستحضر وجوها جديدة لتشكيل حكومة أخرى غير حكومة نظيف. ولكن بنية النظام بقيت كما هى ببرلمانها وآلياتها، وبقى رأس النظام بسلطاته الإمبراطورية ودستوره الذى تعدل حتى أصبح على مقاسه، وحالة الطوارئ التى تسمح له بعمل أى شىء.
وقبل ذلك وبعد ذلك بقيت مشاعر عدم الثقة، وهواجس النكوص عما اتخذ من قرارات واحتمالات الغدر بالشباب بمجرد عودة الهدوء.. كلها بقيت حاجزا يحول دون تغيير النظام.
وعندما يسقط أكثر من ثلاثمائة شاب وشابة شهداء نظام مهترئ يدافع عن بقائه بكل الطرق، فلا مناص من أن يكون رد فعل الشباب رفضا لأية حلول وسط، ولكل الوعود الخلابة التى ألقيت، ولدعوات الحوار التى عجزت عن إقناعهم.
وبعد كل الخطب والبيانات التى ألقيت، والالتفافات والوعود التى بذلت، لم يجد الديكتاتور مناصا من الاستقالة. ولم تنجح محاولة الالتفاف بتفويض سلطاته إلى نائبه.. فقد جاءت الخطوة متأخرة جدا كالعادة. ربما بضعة أسابيع أو بضعة شهور.
إذ لم يخطر بباله أن الشعب لم يعد يريده. أو أن يواجه النهاية بالخروج من المسرح رغما عن إرادته، وهو الذى أمضى سنى حكمه لم ينحنِ لإرادة الشعب مرة واحدة، أو يقرأ مصالحه وطموحاته قراءة صحيحة.
لا أحد يمكنه أن يتصور كيف ومتى تراكمت عوامل الغضب والتمرد التى تحولت إلى نوع من العصيان المدنى على هذا النطاق الواسع فى أنحاء الجمهورية. فتدفقت الجموع الهادرة إلى ميدان التحرير، وإلى الميادين الرئيسية فى عواصم المحافظات، حتى فى الوادى الجديد.. أسر بأكملها مع نسائها وأطفالها لتقول لا، ولتعتصم فى الخلاء.
التفسير الوحيد لذلك أن روح الشباب قد نفخت فى الشعب المصرى بدوره روحا جديدة. وأخرجت من أعماقه مشاعر كبرياء كانت قد انطفأت، وقيما كانت قد ضاعت، وأحاسيس بالعزة و
كانت قد تلاشت، وإصرارا على التغيير الكامل للنظام دون مساومة أو مراوغة.
يمكن القول إذن إن مصر توشك أن تنضم إلى ركب الشعوب المتقدمة، وأن تحقق ما عجزت عن تحقيقه طوال ثلاثة عقود. وقد بدا واضحا أن تصميم الشباب على التغيير لا يقتصر على إسقاط الرئيس مبارك، ولكن أيضا على إلغاء نظام حكم الفرد الواحد، والحزب الواحد، والحكم بالقوانين الاستثنائية والطوارئ، وتزوير الانتخابات، وإهدار ثروات البلاد لصالح قلة من رجال الأعمال الفاسدين، وتوظيف البرلمان لإضفاء شرعية مشبوهة على النظام. ولا يوجد شك فى أن القوات المسلحة التى عهد إليها بإدارة البلاد فى الفترة الانتقالية الراهنة تدرك مطالب الشعب وتنحاز إليها وتعمل على تحقيقها!
فى اتصال هاتفى مع السفير محمد قاسم تعليقا على الأحداث الجارية، اقترح أن تخلّد ذكرى الشهداء الذين سقطوا فداء الوطن فى مظاهرات ثورة 25 يناير، بوضع أسمائهم على المدارس والمؤسسات والجمعيات والمراكز والمستشفيات التى تحمل أسماء مبارك وسوزان مبارك التى تنتشر فى طول البلاد وعرضها. وقد سقط هؤلاء الشهداء نتيجة الفوضى والتسيب الأمنى. وليس معروفا بأى ذنب قتلوا ولا أى يد إجرامية اغتالت شبابهم.. وتخليد أسماء هؤلاء الأبطال هو تخليد للثورة ومبادئها!