النخبة العربية تفقد أحد ركائزها الفكرية الأكثـر عقلانية
رحيل المفكر محمد أركون
غيّب الموت، مساء أول أمس، المفكر الجزائري محمد أركون، عن عمر قارب ثلاثا وثمانين سنة، كرّس جلها في البحث والدراسة، تأسيس ونشر ''الإسلام التطبيقي''، تعميق مشروع تجديد التراث العربي، نقد الفكر ومناقشة النّص القرآني والتجادل حول تحوّلات الراهن. مثيرا، عبر بعض الآراء، كثيرا من الانتقادات والاتهامات المتعصبة التي اتهمته، في وقت سابق، بالتواطؤ مع متطلبات الفكر الغربي الحديث.
من الصعب جدا اختصار سيرة وأعمال المفكر محمد أركون. حياة واكبت أهم المحطات من تاريخ الجزائر المعاصر، من الثورة التحريرية إلى تنامي العنف الإسلامي، وكتابات تغامر، عميقا وبشكل جريء، في تحليل الفكر الدّيني. رحلة فكر انطلقت من قرية توريرت ميمون (1928) واستقرت في جامعة السوربون، ثم الطواف عبر كثير من الجامعات الأوروبية والأمريكية، أسّس وطور خلالها مفهوم ''الإسلام التطبيقي''، اقتباسا عن ''العقلانية التطبيقية'' لغاستون باشلار. ألّف وأصدر عددا من الدراسات والأبحاث والمقاربات، تمت ترجمة غالبيتها إلى العربية، بفضل مجهود المترجم هاشم صالح، ونال بفضلها كثيرا من الجوائز والتشريفات، من بينها ''لواء ضابط الشرف''(1996) بفرنسا وجائزة ابن رشد للفكر الحر (2003) بألمانيا.
أسئلة وأطروحات أركون مثيرة للجدل، حيث يتحدث في تعريف الشخصية المغاربية ويقول: ''هنالك تعريف إيديولوجي للشّخصية المغاربية، ومن ورائها الشخصية الجزائرية. كما نجد أيضا تعريفا جغرافيا باعتباره ينتمي إلى منطقة شمال إفريقيا. لكن، بغية إدراك تعريف حقيقي للشخصية المغاربية لابد من العودة إلى تخصصين مهمين: التاريخ والأنثربولوجيا التي تبقى تخصصا غائبا يعتبره البعض تخصصا كولونياليا''. ويواصل: ''ما نزال نعرّف الشخصية المغاربية والجزائرية، وفق مقتطفات منتزعة من هنا وهناك. يجب أن نعيد النظر في بعض الأشياء. فتاريخ المنطقة والفرد المغاربي لم ينطلق مع وصول العرب والمسلمين، بل تاريخهم يمتد إلى أعمق من ذلك، إلى زمن الرومان وأكثر''.
كما يرفض صاحب ''من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي'' التعصب الديني الذي تتبناه بعض الجماعات والتنظيمات العربية، خصوصا تلك التي نشأت في الجزائر، ويعتبر تفكيرها بعيدا تماما عن الفكر الإسلامي التنويري.
ربما استفاد الراحل محمد أركون من التواجد، في أوروبا، والتدريس ومراودة أهم المراكز الأكاديمية المتخصصة، مما منحه حرية في تحليل التفكير الديني، وجرأة يفتقدها الباحثون المتواجدون ضمن الفضاء العربي الخاضعون للضغوط السياسية والأيديولوجية. ويرى صاحب ''نزعة الأنسنة في الفكر العربي'' أن أحد أسباب تراجع التفكير الحرّ، في النص الديني، تنبع من تزايد الرهانات والحسابات العسكرية والمصالح الاقتصادية التي تتحكم فيها الأنظمة السياسية. كما يتهم أيضا بعض أنظمة الحكم العربية التي برزت بعد مرحلة الاستقلال، بتحوير عدد من القضايا الدينية، من أجل خدمة مصالحها.
هي قضايا وغيرها، ظلت تتجدد وتتعمق في تفاعل مستمر مع الراهن، منحت المفكر محمد أركون، حظوة اعتلاء واجهة الفكر الحر، ومنح مشروعه مصداقية وانتشارا. مشروع انطلق فيه منذ حوالي الأربعة عقود، حاول خلالها تغيير كثير من الترسبات والأحكام المسبقة التي تسيطر على الذهنية العربيّة.