مع كل مرة يذاع فيها الأذان فى التليفزيون مصحوبا بلقطات من الحرم
المكى أو من المدينة تحيط بالواحد ذكرياته يوم زار هذه الأماكن..
ربما تكون يا صديقى قد قرأت ما سبق أن كتبته عن هذة الزيارة، لكننى أثق
أنه لن يضيرك أن تحكى أو تستمع لذكريات من هذا النوع مئات المرات.
فى الطريق من مكة إلى المدينة كان قائد السيارة يقود بسرعة 180
كيلومترا فى الساعة كى نلحق الصلاة، فانفجر إطار السيارة، قال السائق: كان منطقيا
أن تنقلب بنا السيارة عدة مرات، قلت له: إننا نقطع هذا الطريق لنزور النبى (صلى
الله عليه وسلم) وهذا أقل واجب ضيافة قد يقدمه لنا، نزلت لأساعده فى تغيير الإطار،
كانت الشمس قاسية وكانت أشعتها المنعكسة على الجبال تكاد تذهب ببصرى، لم يتحمل
الإطار الفاخر سخونة الأرض لمدة ثلاث ساعات متواصلة، وأرهقتنى الساعات الأربع بين
اليقظة والنوم فى سيارة مكيفة، وكدت أصاب بضربة شمس عندما نزلت منها لمدة 3 دقائق،
بالنسبة لى عادى.. ولكن السؤال: كيف قطع النبى( صلى الله عليه وسلم) هذا الطريق
سيرا على الأقدام فى عشرة أيام؟!
فعلها النبى فكان طبيعيا أن ترى عشرات الآلاف من مختلف الجنسيات،
معظمهم لا يعرفون اللغة العربية يتصارعون للفوز بصلاة ركعتين فى الروضة الشريفة،
كنت فى ما قبل أردد كالببغاء «أدى الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الأمة»، اليوم أقولها
وقد ملأ قلبى اليقين وشفت بعينى أنه (أدى الرسالة) فعلا.
كان كرم الضيافة كبيرا، كان محددا لزمن الزيارة ساعتان قبل العودة إلى
مكة، كنت أعرف أننى سأخوض مهمة حربية لزيارة قبر النبى( صلى الله عليه وسلم) وصلاة
ركعتين فى الروضة الشريفة، هناك من يقضون أياما فى المدينة قبل أن يفوزوا بهذا
الشرف، لكننى ومنذ وطئت قدماى أرض الحرم النبوى حتى وجدتنى أقول بشكل لا إرادى
مخاطبا سيدى النبى (صلى الله عليه وسلم
) «سيدى وصالك.. زاد علىّ
حنينى»، وكان سيدى كريما فى وصاله فصليت بالقرب من قبره، ثم قمت فوجدت الأمن يزيل،
فى اللحظة نفسها، الحاجز الذى يحيط بالروضة، وجدتنى مدفوعا لأستقر أمام منبره،
صليت حيث لا أحد يقطع صلاتك بالمرور أمامك، ثم دفعنى الزحام المنساب ببطء من جديد
لزيارة قبره وقبر الكبيرين أبى بكر وعمر، توقفت حيث لا فرصة للتوقف وسط طوفان
البشر الهادر، لكننى فعلتها، مرت أمامى مشاهد كثيرة، صوت من الطفولة يغنى «ميتى
أشوفك يا نبى يالّلى بلادك بعيدة» قريبتى وهى تحكى لزوجة البواب المفرطة فى
السذاجة والطيبة قائلة: إنها زارت المدينة وزارت قبر النبى (صلى الله عليه وسلم
) فلطمت
زوجة البواب على صدرها فى دهشة وذهول قائلة (هو النبى مات؟).
مشهد سيدنا على وهو يغسل جسد النبى (صلى الله عليه وسلم) بمعاونة أسامة
بن زيد والعباس بن عبد المطلب، مشهد سيدنا عمر وهو يشهر سيفه متوعدا من يقول إن
النبى (صلى الله عليه وسلم) مات لأنه لم يصدق، مشاهد كثيرة لمداخل بيوت أقاربى
وجيرانى فى الصعيد، وقد زينت برسوم لطائرة أو باخرة وأسفلها حاج زار قبر النبى-
صلى الله عليه وسلم- وحديث «من زار قبرى وجبت له شفاعتى»، إلى أن جرفتنى الأمواج
باتجاه باب الخروج.
كان كرم الضيافة أكبر من الوصف، خرجت وقد أصبح مقاس روحى «إكس إكس
لارج» بعد سنوات فى مصر وهى تتراوح ما بين ميديم وسمول، خرجت فرحا لا أشعر بأى خوف
من الآخرة بالعكس أصبحت أشعر بالخوف من الدنيا التى قد تبدد هذه الأنوار، وفى طريق
العودة كنت شاردا مع القمر الذى اكتمل فأنار ظلام الصحراء وانساب نوره على الجبال،
كانت رفقة القمر أشبه بالطبطبة، كانت امتدادا لكرم الضيافة ورقة وصال سيدى النبى
(صلى الله عليه وسلم
)،
لاحظ السائق انجذابى فسألنى إن كنت سأؤدى عمرة ثانية عند العودة إلى مكة، ابتسمت
وهززت رأسى بالموافقة «طبعا».
نسيت من أنا خلال الساعات القليلة التى قضيتها بين مكة والمدينة، نسيت
أنه لا طيران من القاهرة إلى المدينة وأننى لا بد أن أخرج من بيتى فى وسط المدينة
محرما، نسيت تعليقات الأصدقاء المصريين «السكّر
» الذين قالوا لى «ما بتفكرش
تحط خطين حمر بعرض لبس الإحرام؟»، نسيت برد الطائرة القارس الذى حطم ضلوعى، نسيت
الأقلام التى انهالت على قفايا وعلى وجهى من كل صوب وأنا أشق طريقى باتجاه الحجر
الأسود، نسيت طقطقة مفصل الفخذ أثناء السعى، نسيت أن أعلق لمرافقى على كون صنفين
فقط يحصلان على امتياز ما فى العمرة والحج، هما الرؤساء وأصحاب الاحتياجات الخاصة
(الفرق أن الفئة الأخيرة هناك أمل فى شفائها)، نسيت حقائبى التى تأخرت بالساعات فى
المطار، كنت متوحدا تماما ولا أرى إلا الأنوار فى كل مكان.
المرة الوحيدة التى فصلت فيها لمدة ثوان عندما وقف إلى جوارى أمام قبر
النبى (صلى الله عليه وسلم) رجل مصرى بسيط كبير فى السن، كان هادئا ووجهه مريح،
ويبدو أنه لم يدر ماذا يجب أن يقول لساكن القبر فرفع يده ملوحا بالتحية وكله خشوع
وصدق قائلا (باشا).