علاقة درويش بالجزائر ليست فقط متميزة لكنها علاقة يصعب كثيرا فهمها بعيدا عن ارتباط الجزائر بالثورة الفلسطينية، فأول خروج لـ "سيد الكلام" بعد حصار بيروت وطرد المقاومة منها كان إلى الجزائر بجواز سفر جزائري، كما أنه الشاعر الذي تمنى أن يكون ماسح أحذية في الجزائر..ورغم عزة النفس والأنفة التي عرف بها درويش إلا أنه لم يكن أبدا يرفض أي دعوة تأتيه من الجزائر التي زارها أكثر من مرة وسجل بها مواقف تاريخية.
* زار درويش الجزائر في فترات متعددة ومتباعدة أبرزها زيارته في 1988 التي رافقت إعلان دولة فلسطين، وزيارته التي لعب فيها دور الوسيط في مفاوضات اتحاد الكتاب الفلسطينيين،
* وآخرها كانت في 2005 بدعوة رسمية من التلفزيون الجزائري، وكان من المنتظر أن يزور الجزائر في 2007 بمناسبة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، غير أن وضعه الصحي حينها لم يكن يسمح له بالزيارة.
* ومن بين كل الزيارات التي قادت درويش إلى الجزائر تبقى زيارته التاريخية في 1988 محطة مشعة في سجل تاريخه النضالي، حيث كتب وقرأ وثيقة إعلان دولة فلسطين بالجزائر.
* وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت كان درويش يستقبل الدعوات التي تأتيه من الجزائر بفرح ويلبيها دائما، وكان يستمد علاقته بالجزائر من العلاقة الروحية التي تربط الشعبين الفلسطيني والجزائري، فدرويش كان يعتبر دائما الثورة الجزائرية مدرسة يستلهم منها الفلسطينيون نموذج النضال الوطني
* وفي زيارته الأخيرة إلى الجزائر عام 2005 كان جد مؤمنا أن "هذا الشعب الذي قام بثورة لردع أعتى قوة استعمارية يستحيل أن يستقيل من الحياة"، وقد ربطته علاقات صداقة مع كثير من المثقفين في الجزائر وكانت أمسياته تستقطب رجال السياسة أيضا حتى أن الرئيس بوتفليقة قال لسفير فلسطين في الجزائر "تشفع لكم فلسطين ومحمود درويش".
* الجزائر أعادت لقصيدة "سجل أنا عربي" معناها
* الجزائر في وجدان درويش لا تشبه الكثير من الأمكنة ولا المدن التي مر بها، فهو القائل "ليتني بائع خبز في الجزائر لأغني مع ثائر"، وحتى رائعته التي اشتهر بها "سجل أنا عربي" لم يكتشف معناها إلا في الجزائر، حيث يذكر الصحفي طلال سلمان أن "درويش وصل لحد كره القصيدة التي انتفى، حسبه، موضوعها، وصارت أهمية هذه القصيدة تنحصر في أن تقال في وجه العدو الذي ينكر عليك عروبتك! أما أن تقولها للعرب المتباهين بعروبتهم فإنها تبدو مبتذلة وفي غير موقعها! بوسع كل منكم أن يقول: "سجل أنا عربي..فلا يكون لكلامه أي معنى"، يقول طلال سلمان على لسان درويش: "بعد سنوات قليلة، يزورني محمود درويش في "السفير" ليبلغني أنه ذاهب إلى الجزائر بدعوة رسمية. قلت بغير قصد الإحراج: ستجد نفسك تنشد أول ما تنشد القصيدة التي بت الآن تكرهها.. سجّل أنا عربي! ورّد مستنكراً: فشرت! لن أقولها خارج فلسطين أبداً!. لكنه جاءني مسرعاً بعد عودته من الجزائر ليقول: معك حق!. وجدت نفسي أبدأ بقصيدتي التي لم تعد تعجبني، سجّل أنا عربي، وأختم بها!. هناك اكتشفت لها المعنى! لقد قُهر الجزائريون في لغتهم باعتبارها بعض قوميتهم! أن لها هناك معنى التحدي للاستعمار الذي حرم أهل البلاد من لغتهم ليلغي هويتهم، وكانت تلك خطوة تمهيدية لمسح عروبتهم وجعلهم فرنسيين".
* محمود درويش زار الجزائر أيضا ليكون وسيطا ومفاوضا في أزمة اتحاد الكتاب الفلسطينيين، يوم حدث انشقاق فيه بين جماعة دمشق الرافضة لمسار المفاوضات وجماعة ياسر عرفات، وكان يومها درويش قد سار مع أبو عمار والجزائر كانت قد تقدمت بمبادرة وخطوة لاستضافة المتخاصمين في محاولة منها لرأب الصدع، وهنا يورد الدكتور أحمد حمدي الذي كان يومها عضوا في المجلس الوطني لاتحاد الكتاب الجزائريين أن درويش حاول جس نبض ومقدرة اتحاد الكتاب الجزائريين ومدى تأثيره في اتحاد الكتاب العرب، ورغم أن درويش كان قد حشد الدعم من جميع الدول العربية تقريبا لجناح أبو عمار، مستندا على مكانته ووزنه الأدبي، لكن الجانب الجزائري تمسك بالسير على نهج الشرعية في المفاوضات، وهنا يسجل حمدي أن درويش كان مفاوضا صعبا لكنه كان بسيطا "كان يجلس مع الكتاب في مقهى اللوتس وكان يرفض النزول في الفنادق الفخمة، ويفضّل عليها فندقا بسيطا، لكن بعد انضمامه إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صار أكثر بيروقراطية".
* يوم أغلق الشعر شوارع العاصمة
* كانت زيارة محمود درويش إلى الجزائر في 2005 آخر زياراته لهذا البلد قبل رحيله، حيث جاء درويش إلى الجزائر يومها بدعوة رسمية من التلفزيون الجزائري ومكث في البلد أزيد من أسبوع ونشط أمسية في قاعة ابن خلدون كانت تاريخية بكل المقاييس، أغلقت يومها الشوارع الرئيسية بالعاصمة وأثبت أن جمهور الشعر لم يمت.
* عن هذه الزيارة يقول الشاعر عز الدين ميهوبي الذي قدم درويش في هذه الأمسية للجمهور: "اكتشفت أن درويش الإنسان المأخوذ بجمال الجزائر خاصة مطاعمها الساحلية كان يقول: "للسمك الجزائري طعم وذوق لا أجده في مكان آخر من العالم". وتلك عادة احتفظ بها منذ 1972 فطوال أسبوعه في الجزائر كان يحرص كل ليلة على طلب طبق السمك الجزائري.
* درويش المعروف بحبه لكرة القدم التي كان يسميها "أشرف الحروب" يقول عنه ميهوبي: "استعاد معنا في إحدى سهراته بالجزائر وقائع مباراة الجزائر ألمانيا في مونديال 1982 وهو تحت الحصار ببيروت، وكيف جعله النصر الذي حققه الفريق الجزائري ينسى الحصار..كان يروي لنا تفاصيل اللقاء بدقة وحماس شديدين..كان درويش يحب الرياضة ويدعى سنويا كضيف شرف لماراتون تولوز بفرنسا، وكان يعتبر أن "الشعب الفلسطيني بحاجة ليضحك ويلعب ويحب ليشعر بالحياة، هذا ما جعل درويش في نصوصه الأخيرة يتجه اتجاها آخر، ويكتب عن الحب
* ومواضيع تبتعد قليلا عن الأشعار النضالية والحماسية التي صار يتجنب كثيرا إلقائها في أمسياته الشعرية".
* لم يكن درويش من الأشخاص الذين يقفزون على تاريخهم، كان يستعيد في جلساته صداقاته المتميزة مع كاتب ياسين وإعجابه بثقافة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ويبدي اهتماما كبيرا بالتجربة الشعرية الجديدة في الجزائر..كان مستمعا جيدا ويملك حسا نقديا رفيعا، وفوق هذا كان قارئا نهما للرواية، وبارع في التنكيت.
* درويش عبر أيضا من قسنطينة عام 1987 بدعوة من الفرع الجهوري لاتحاد الكتاب الذي كان يرأسه يومها محمد زيتلي، حيث نشط أمسية شعرية بالمسرح الجهوي وحضرها جمهور كبير، اعتذر خلالها درويش عن تأخر زيارته لمدينة الصغر العتيق التي أذهل بجمالها، وقال إنها ذكرّته بتضاريس مدينته التي عاش وهو يحلم بالعودة إليها.
* فرض الشعر على السياسيين و الجنرالات
* كان درويش أحد الذين كسروا الحصار على الجزائر في زمن الدم والدموع، فردد أجمل قصائده "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" و"مديح الظل العالي" التي صارت بطاقة تعريف لدرويش على أرض الجزائر، يقول الكاتب عبد العزيز غرمول، وهو واحد من الذين نظموا الزيارة "لأول مرة التقيت به، كان بعيدا عني، في منتصف الثمانينيات عندما تقاطر الفلسطينيون من مختلف أنحاء العالم للإعلان عن ميلاد دولتهم. كان يومها محمود درويش في قمة نجوميته، وكانت رغبة ملحة تحرضني على إجراء حوار معه، لأنني كنت أعتقد أن لدي أسئلة لم يطرحها عليه أحد بعد، ومنها مساهمته الحثيثة في إنشاء دولة على الورق، نظر إليّ مندهشا ورسم على وجهه الجميل ضحكة واسعة: "أنت.. سنلتقي!. ولم تتح لي فرصة لقائه بين المراسيم والحرس والدعوات الرسمية التي غطت حضوره الشاعري".
* وأضاف غرمول:"بعد خمس سنوات، وحينما التحقت بديوان وزير الاتصال والثقافة السيد حمراوي حبيب شوقي، كان أول ما عملت من أجله دعوة محمود درويش إلى الجزائر. لسببين لا ثالث لهما بالنسبة لي. كانت الجزائر على مشارف حرب ضروس يسودها اليأس والتخاصم وحياة الحصار من دول شقيقة وصديقة، وكنا في حاجة إلى فتح نافذة على العالم، فكان بالنسبة لي صوت محمود درويش، إحياء للفرح في قلوب الجزائريين..في تلك الأثناء كان من حظي أنني رافقته في واحدة من أكثر رحلاته غنى وجمالا إلى الجزائر. واكتشفت في الرجل ميزات لا يمكن سوى لرجل عظيم أن يتميز بها، البساطة مع كبرياء لا ينحني، والابتسامة عن غضب، وقلب مفتوح على الحياة بشكل لا يصدق أنه مريض، وطفولة لم تشكّمها سنواته الخمسون، وأيضا مشاكسة من ذلك النوع الجارح والطريف في آن واحد، ففي طريقنا إلى تيبازة طلب من السائق أن يتوّقف قليلا، نزلت معه فراح يتأمل الطريق المضّلل بالأشجار والحقول الخضراء المنتشرة حوله، كان حديثنا لا يزال يدور عن بيروت، وهي حبيبتنا نحن الاثنين، ثم عدنا إلى السيارة، فقال ضاحكا: "غريب أمر أصدقائنا اللبنانيين لديهم شجرة أرز واحدة فقاموا بزرعها على علمهم، لو يقلدهم الجزائريون إذن سيغرسون ثلاثة ملايين شجرة".
* وأردف محدثنا قائلا:"حين وصلنا إلى المدينة الرومانية وكان يستمع بانتباه قليل إلى الدليل، وهو يشرح له بعض المعالم، بينما كان درويش يقلب نظره بين البحر التضاريس والغابة، ثم استدار إليّ بضحكة عابثة: هذه هي الغلطة التي ارتكبها الرومان؟. قلت بدهشة: ما هي؟. ردّ ضاحكا تنازلهم عن هذا البلد العظيم!".
* ثم أضاف: "غير أن لقاء محمود درويش بزوجة السفير الفلسطيني أبو العز، موقفا من الطرافة والذكاء لا مثيل له، كان يسميها المشعوذة، وكانت تعتبره طفلا ما زال في حاجة إلى المزيد من الحياة (لم تقل الخبرات ولا السنوات)!. كنت ذاهلا بينهما وهما يتحدثان كصديقين لدودين، وكلاهما يتحرش بالآخر بحب رائع، كلاهما ذكي ومثقف ولا يستهين بخبث الآخر، ولعبه على الكلمات، وكان أبو العز يتفرج مثلي على اللعبة ويبتسم بتهذيب. أعتقد أنها كانت واحد من دعوات الفرح التي لا أنساها".
* يواصل غرمول شهادته حول درويش فيقول:"في أول يوم ذهبت فيه إلى الفندق. كان موعدنا التاسعة صباحا، وكانت هناك مواعيد رسمية كثيرة في انتظارنا، وبعد نصف ساعة من الانتظار رفعت السماعة من بهو فندق الجزائر وطلبت غرفته. حييّته بمقطع من قصيدته الشهيرة يطير الحمام: "صباحك فاكهة للأغاني"..وسمعت ضحكته المجلجلة: "آسف، أنا لم أقل لك أن صباحي طويل.. تعالى نشرب قهوة في الغرفة!..عندما يتحدث محمود درويش في غرفته يتحدث العالم فيه بكل تنوّعاته وثقافاته وضجيجه وصداقاته الخائبة وكتبه وأغانيه ورحلاته وغربته في بقاع الأرض.. كلام عابر عن مالك حداد وفي نفس الوقت تذكار لرواية نجمة لكاتب ياسين.. قلت له أن ترجمة "ملك أبيض" نوع من إعادة كتابة.. لم يقل شيئا عن السياسة، ولا عن الوضع في الجزائر..وحين خرجنا راح يتحدث عن الطقس الجميل. سألته بخبث: هل تحمل الجنسية الإنجليزية..رد بسرعة "عندما أكون في الجزائر.. وضحكنا. فقد فهم أنني أقصد أن الإنجليز عندما لا يجدون ما يتحدثون عنه يتحدثون عن الطقس".
* وأضاف غرمول:"كانت أمسيته في قصر الثقافة من الأمسيات العظيمة التي نظمها هذا البلد. حضرتها الجزائر بكل ثقلها الثقافي والسياسي والتاريخي والأدبي، ضاق القصر بما رحب، واضطر المسؤولون يومها إلى نصب شاشات كبيرة في أروقته ليتسنى للجمهور الاستماع إليه. كان رئيس الدولة يومها علي كافي محبا للثقافة وعلى علاقة قديمة بمحمود درويش، وكانت الصفوف الأولى كلها تعج بكبار رجال الدولة، بما فيهم جنرالات ووزراء ووزراء سابقون، ومثقفون من وزن أحمد طالب الإبراهيمي، كان لي شرف تقديمه وتحيته أمام الجمهور بكلمة شاعرية اجتهدت أن تكون في مستواه، وكم أذهلني تواضعه وهو يتقدم من المنصة قائلا، هذا كثير عليّ!. ألقى رائعته الأولى "الهندي الأحمر"، لكنها لم تجد التفاعل المطلوب من الجمهور، وأعتقد أن تضميناتها التاريخية وانزياحها من معاناة إلى معاناة أخرى بعيدة، وهي الاحتقار الإسرائيلي للفلسطيني، كانت تحتاج لقراءة متأنية وليس لسماع عابر. غير أنه ككل فنان قدير عرف مواطن العزف في جمهوره، فغيّر الوصلات الشعرية، وقرأ قصائده المعروفة التي كانت في ذلك الوقت نشيد الجزائريين ومنها "قهوة أمي"، فقرأها معه جمهور القاعة..كان درويش يحب الإقامة في فندق الجزائر، قال لي إنه يجد فيه عبق التاريخ وطمأنينة استثنائية. لكنني أخذته ذات مساء خارج التوقيت المحلي، كما أسماه، أخذته إلى شرفات فندق الأوراسي في ليلة صافية وجيدة الإضاءة. شهق من فرط إعجابه بخليج الجزائر، ورحت أحدثه عن تاريخ هذا الخليج والحروب التي عبرته، والسفن التاريخية التي رست فيه، وبعد نصف ساعة من ثرثرتي، استدار إليّ مبتسما: عفوا لم أسمعك..هل من الممكن أن تعيد ما قلت!. اعتذرت له وصمتنا".
* وانتهى غرمول فقال:"التقيته بعد عشر سنوات فيما بعد، قال ضاحكا للصديقين حبيب شوقي وإبراهيم صديقي، وكان شوقي قد عاد يومها مديرا عاما للتلفزيون، وإبراهيم مديرا للأخبار، وهما يعيدان معه رؤية شريط الأمسية تلك: "يا للهول، هل سقط كل هذا الثلج على رأس هذا الشاب