أستاذ التاريخ الذى امتدح السلطان فى الكتاب المدرسى الحكومى، ثم ذمَّه بعد خلعه فى مقالة منشورة، لا يختلف عن الصحفى الذى ظل يلعق حذاء السلطان طول الوقت، وما إن تمت الإطاحة به حتى هتف صائحا «انتصرنا»، وحدثنا بعد ذلك عن «تنظيف مصر» من بقايا النظام الفاسد. كلاهما من «جنود فرعون» الذين تحدثت عنهم أمس، وإن كان الأول جنديا يعمل نصف الوقت، بعد فراغه من التدريس بالجامعة. أما الثانى فهو جندى متفرغ كل الوقت. والأول التحق بكتيبة النفاق متطوعا كى يستفيد ماديا من مكافآت الوزارة، والثانى منافق محترف تم استئجاره لكى يؤدى تلك الوظيفة.
وكما أن الذى صاح «انتصرنا» ليس فردا ولكنه واحد من كتيبة النفاق، التى لوثت سمعة الإعلام المصرى وشوهت الإدراك العام، فإن أستاذ التاريخ سابق الذكر من نماذج المثقفين، الذين تعلقوا بأهداب السلطان واستسلموا للغوايات، التى جعلتهم يتنافسون على الالتحاق بجنود فرعون.
فى وقت سابق، ثار جدل فى مصر حول «أزمة المثقفين» وحظوظ أهل الثقة وأهل الخبرة، لكننا بعد أربعة عقود من ذلك الجدل نستطيع أن نتحدث الآن عن خيانة المثقفين. أقصد بذلك خيانتهم لدورهم كمعبرين عن ضمير الأمة، وتطوعهم بالانتقال إلى مربع المعبرين عن مصالح الطغيان المهيمن. وهو جرم أكبر مما اقترفه الإعلاميون. ولست فى مقام تبرئة الأخيرين أو إعذارهما، لأن الاثنين متورطان فى الإثم، لكننى أزعم أن جرم المثقفين أفدح، لأنهم متطوعون ولم يطلب أحد منهم ذلك. أما الإعلاميون فهم موظفون لأجل ذلك. الأولون تطوعوا لخدمة السلطان تقربا منه وطمعا فى رضاه وعطاياه. والآخرون عينوا خدما للسلطان وقبلوا بذلك وسعدوا به.
ليس جديدا استخدام المثقفين من قبل الطغاة، فقد كانوا دائما أحد الأبواق، التى لجأوا إلى استخدامها للتغرير بالناس وتضليلهم. ولعل كثيرين يذكرون ما جرى فى ألمانيا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتى فى بداية التسعينيات، حين كشفت الوثائق عن أن عددا كبيرا من المثقفين ــ الأكاديميين والكتاب والفنانين ــ لم يكونوا يروجون للنظام فحسب، ولكنهم أيضا كانوا يكتبون التقارير للأجهزة الأمنية عن الناشطين والمعارضين. وكتاب الحرب الباردة الثقافية للباحثة البريطانية ق. س. سوندرز، الذى صدر فى إطار المشروع القوى للترجمة يوثق الأساليب، التى اتبعتها المخابرات المركزية والأمريكية لاستخدام الفنانين والأدباء فى الصراع بين القطبين الكبيرين.
حدث ذلك أيضا فى مصر، حيث انضم بعض المثقفين إلى جوقة المهللين للأب والمسوقين للابن، والمضللين لجموع المصريين. وأحسب أن فترة حكم الرئيس السابق، التى استمرت ثلاثين عاما كما وفرت فرصة كافية لنظامه لكى يتولى تفكيك مؤسسات الدولة وإعادة تركيبها على قياسه وطبقا لهواه، فإنها أيضا وفرت وقتا كافيا لإنجاح جهود أغواء المثقفين وترويضهم. ومن ثم ضمهم إلى حظيرة السلطان، بعد الإغداق عليهم بالأموال والهبات، إلى جانب ترفيعهم فى المراتب والوظائف بطبيعة الحال.
لا عذر لهؤلاء وينبغى أن يحتلوا مكانهم فى صدارة قوائم العار. ذلك أن خيانتهم لدورهم ينبغى ألا تغتفر. كما أن فضح مواقفهم والتذكير بدورهم فى غش الجماهير والتدليس عليها يظل من الأهمية بمكان. ليس فقط لقطع الطريق أمامهم لكى لا يسارعوا إلى ركوب الموجة الجديدة، شأنهم فى ذلك شأن أقرانهم من الإعلاميين، ولكن أيضا لكى يكونوا عظة وعبرة لغيرهم.
قد نعذر المكره والمضطر، لكن المثقف الذى يتطوع لخدمة الاستبداد لا عذر له. وإذا لم يكن بمقدوره أن يكون شريفا يجهر بالحق وينحاز إلى صف الجماهير المغلوبة على أمرها، فإن ذلك لا يسوغ له أن ينبطح ويصبح خادما للسلطان.
حين رفض الأديب صنع الله إبراهيم فى حفل علنى جائزة الدولة التى منحت له، فإنه ضرب المثل للمثقف الشريف، الذى اختار أن يجهر برفضه للسلطان أو عطاياه. ومن ثم سجل موقفا يحسب له وميزه على غيره ممن تسابقوا على عطايا السلطان والانخراط فى جنده. إننا قد لا نستطيع أن نطالب كل المثقفين بأن يكونوا شجعانا ويجهروا بمواقفهم، وقد نقبل منهم أن يلتزموا الصمت توقيا لأى مخاطر يتوقعونها، لكننا لا نقبل منهم بأى حال أن يصبحوا أعوانا للاستبداد، لأنهم بذلك لا يخونون أماناتهم فحسب، ولكنهم يفقدون شرعيتهم أيضا.