بحارة برج المراقبة لم يكونوا يرون شيئا فى ظلمات ليل المحيط الكثيفة، التى تحيط بهم من كل اتجاه، لكنهم بالتأكيد أحسوا بالبرد المخيف الذى ساد الأجواء بغتة، وكان لهذا النوع من البرد المباغت معنى واحد يعرفونه جيدا ضمن أبجديات ما يتعلمه بحارة السفن فى أعالى البحار، لكن أحدا منهم لم يجرؤ على البوح للقبطان بما يراه من معنى محتمل فى هذا البرد المفاجئ، فقد كان قبطانهم «إ.جى.
سميث» مُدرَّعا بثلاثة أشياء إذا اجتمعت فى إنسان واحد حولته إلى إله بشرى مزيف، تتفاقم ألوهيته الزائفة هذه طالما كان من حوله أناس يقدمون له أنفسهم كعبيد، أو يرضون صدقا أو كذبا بالعبودية له.
كان القبطان «إ.جى.سميث» عجوزا وعنيدا وحاكما مطلقا على السفينة، التى تمخر بحر الظلمات، وكان هذا الثالوث كافيا أن يملؤه بعجرفة وغرور يخبئهما وقاره الشكلى ومكانته، التى خوَّلت له أن يهمس أو يومئ فتتحول همساته أو إيماءاته إلى أوامر لاراد لها ولا نقاش فيها ولا محاسبة.
وكالآلهة كانت تحوم حوله الأساطير، أساطير القدرة على إتيان ما لا يأتى به البشر.
أساطير أحاط بها نفسه عندما ترك منافقيه ينسجونها من حوله، فصار خارقا لدى تابعيه وتابعى تابعيه من البحارة، يثبِّت اتجاه الدفة ويذهب لينام فيبتسمون بانبهار مُداهِن مرددين أنه يرى كل شىء حتى وهو نائم!
ويواجه العواصف ببطء المسنين وبرود الطغاة، فتذيع بطانته بعد انقشاع العواصف أنه أمر الريح فسكتت، وحدّق فى عين الإعصار فهمد الموج الهائج وانقطع انهمار المطر!
كان أفراد بطانته من البحارة المقربين يعرفون فى قرارة أنفسهم أن تلك ما هى إلا أكاذيب دعمتها المصادفة ومقادير العواصف العابرة وحظه العجيب، لكنهم كانوا يتركون هذه الأساطير تعمل، ويهللون لها ما داموا يتنعَّمون فى ظل هيمنته بامتيازات استثنائية ومكاسب فاحشة على ظهر السفينة.
وعندما وصلت عضة البرد المخيف المفاجئ إلى عظامهم، لم يجرؤ واحد منهم أن يجاهر القبطان الإله بحقيقة ما يتوقعه فى الأفق، بل إن معظمهم، بالرغم من كونهم بحارة ذوى خبرة ودراية، فقدوا حتى القدرة على تمييز بوادر الكارثة، لأن عجرفته وثقل ذهنه ومواتاة حظه نزعت من قاموسه كلمة كارثة، ونزعتها بالتالى من عقولهم! لِمَ لا؟
لِمَ لا، وهو الذى تبجَّح عام 1907 بتصريح خيلائى مُوثَّق قال فيه: «خلال خبرتى، لم أتعرض لأى حادث من أى نوع يستحق أن أتوقف عنده أو أتحدث عنه. ولقد رأيت سفينة واحدة فقط فى حالة شدة واستغاثة طيلة عمرى فى حياة البحر.
ولم أر حطام أى سفينة، ولم تتحطم سفينة فى إمرتى، كما أننى لم أكن مرة فى أى مأزق عصيب يُنذِر بالانتهاء إلى كارثة من أى نوع من الأنواع».
القبطان العجوز العنيد المتعجرف «إ.جى. سميث»، الذى أدلى بهذا التصريح الطافح بخيلاء العظمة والغرور عام 1907، هو نفسه الذى سجلت السفينة «تيتانيك»، التى كانت تحت إمرته، أشهر حوادث التحطم البحرى للسفن فى التاريخ كله، عندما اصطدمت بجبل ثلج عائم فى المحيط عام 1912، وكان ممكنا تحاشى هذا الاصطدام لو أن بحارى برج المراقبة لم يجبنوا عن إخباره بنذير الشؤم المبكر، كما كان ممكنا ألا تغرق تيتانيك هذا الغرق المروِّع، لو أن واحدا من بحارته المحنكين فى غرفة القيادة قد أزاحه مبكرا عن الدفة، التى تيبس واستمات عليها مُسجلا مشهدا سينمائيا يوحى بالبطولة، وإن كان جوهره الإجرام والخرَف.
غرقت تيتانيك متحطمة لأن بحارا واحدا لم يزح قبطانها العجوز عن دفة القيادة، ولم يصرخ فيه صرخة واحدة واجبة فى اللحظات الحرجة: «تنحَّ»، وها هى صرخات ثمانية ملايين من المصريين تجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها، مشكلة إجماعا يفوق أى نسبة فاز بها الرئيس من الخُمس الضئيل من مجموع الناخبين المصريين فى انتخابات 2005، التى يتذرعون بشرعيتها. ها هى شرعية حقيقية جديدة تنزع عن الرئيس شرعيته الملتبسة، الرئيس الذى صرح مرة فى نوبة صدق قائلا: «لا يمكن أن يستمر فى الحكم أى قائد لا يريده شعبه»، وها هى إرادة شعبية حقيقية واضحة وعلنية تصرخ فيه صرخات مليونية فى كل أرجاء مصر تطالب برحيله، ولليوم السادس عشر على التوالى، ودون توقف حتى هذه اللحظة.
مصر ليست سفينة حكم أبدى، فأى حكم سيظل عابرا مهما مكث ولو بالحديد والنار، مصر دولة من أرض وشعب كبيرين عظيمين، وتشبُّث الرئيس بدفة الحكم سيزيد من غرق هذا الحكم فى مزيد من الدم والخطايا، لكن هذا التشبث لن يُغرِق وطنا وشعبا استيقظ يقظة تاريخية مبهرة، ويقظته هذه المرة لا تشكل ثورة سياسية فقط، بل ثورة روحية اكتشف فيها هذا الشعب حقيقة جوهره النبيل وانحطاط الزيف، الذى غالى فى طمس جوهر هذه الأمة فى سنوات الحكم الرديئة الأخيرة على وجه الخصوص.
صار مستحيلا أن تنسى هذه الملايين
التى استعادتها، مهما دارت حولها الدوائر وأُحكِمت الالتفافات والمناورات والمماطلات، ولن يكون خراب التشبث بالحكم إلا خرابا للنظام مهما تطاير حطامه النارى وأصابت شظاياه القاتلة أرضنا والناس.
سفينة هذا النظام هى التى ستتحطم إن آجلا أو عاجلا، والغرق النهائى سيكون لهذا النظام ولمن تحلقوا حوله وتعلقوا به، هذا إن لم يكن هناك فى دوائر السلطة ومؤسسات الدولة، شجاع يصرخ أو حتى يهمس للرئيس ناصحا مخلصا حاسما: «تنحَّ الآن يا رجل.
تنح بإرادتك. تنح بكرامة لن تطيل الانتظار بعد كل هذا الدم البرىء الذى سفحه القتلة فى نظامك. تنح ولا تُصغِ لوسوسات العناد، الذى لا يورث إلا الشر.
تنح ولا تصغ لإغواء الشياطين الذين أفسدوا حكمك من حرس قديم وآخر جديد، فجميعهم نفايات بشرية تطفلت على دمك ودم شعبك وإن أبدت لك الإخلاص. هؤلاء لا إخلاص لهم إلا دنىء مكاسبهم من نفوذ أو فلوس أو كليهما معا. تنحَّ وليرحمنا ويرحمك الله».
تنحَّ!