يغوص البحر من طلب اللآلي
ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق العلم . و العاشق ينبغي أن يصبر على المكاره .
و من ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب ، و مذ فقد التفقد لهم من الأمراء و من الإخوان
لازمهم الفقر ضرورة .
و الفضائل تنادي٭ هنالك ابتلي المؤمنون و زلزلوا زلزالاً شديداً .٭
فكلما خافت من ابتلاء قالت :
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
و لما آثر أحمد بن حنبل رضي الله عنه طلب العلم و كان فقيراً ، أبقي أربعين سنة يتشاغل به و
لا يتزوج ، فينبغي للفقير أن يصابر فقره كما فعل أحمد .
و من يطيق ما أطاق ؟ فقد رد من المال خمسين ألفاً و كان يأكل الكامخ و يتأدم بالملح .
فما شاع له الذكر الجميل جزافاً ، و لا ترددت الأقدام إلى قبره إلا لمعنى عجيب .
فيا له ثناء ملأ الآفاق ، و جمالاً زين الوجود ، و عزاً نسخ كل ذل .
هذا في العاجل ، و ثواب الآجل لا يوصف .
و تلمح قبور أكثر العلماء لا تعرف و لا تزار . ترخصوا و تأولوا و خالطوا السلاطين ، فذهبت
بركة العلم ، و محى الجاه ، و وردوا عند الموت حياض الندم .
فيا لها حسرات لا تتلافى ، و خسراناً لا ينجبر ، و كانت صحبة اللذات طرفة عين ، و لازم
الأسف دائماً .
فالصبر الصبر أيها الطالب للفضائل ، فإن لذة الراحة بالهوى أو بالبطالة تذهب و يبقى الأسى ،
و قال الشافعي رضي الله تعالى عنه :
يا نفس ما هو إلا صبر أيام كأن مدتها أضغاث أحلام
يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة و خل عنها فإن العيش قدامي
ثم أيها العالم الفقير ، أيسرك ملك سلطان من السلاطين ، و أن ما تعلمه من العلم لا تعلمه ؟
كلا ، ما أظن بالمتيقظ أن يؤثر هذا .
ثم أنت إذا وقع لك مستحسن ، أو معنى عجيب ، تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية .
فقد حرم من رزق الشهوات ما قد رزقت ، و قد شاركتهم في قوام العيش ، و لم يبق إلا
الفضول الذي إذا أخذ لم يكد يضر .
ثم هم على المخاطرة في باب الآخرة غالباً ، و أنت على السلامة في الأغلب .
فتلمح يا أخي عواقب الأحوال ، و اقمع الكسل المثبط عن الفضائل .
فإن كثير من العلماء الذين ماتوا مفرطين يتقلبون في حسرات و أسف .
رأى رجل شيخنا ابن الزغواني في المنام ، فقال له الشيخ : أكثر ما عندكم الغفلة ، و أكثر ما
عندنا الندامة .
فأهرب وفقك الله قبل الحبس ، و فسخ عقد الهوى على الغبن الفاحش .
و اعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينا ، و أن يسير التفريط يشين وجه المحاسن .
فالبدار البدار و نفس النفس يتردد ، و ملك الموت غائب ما قدم بعد ، و انهض بعزيمة عازم .
إذا هم ألقى بين عينيه عزمة و نكب عن ذكر العاقب جانبا
و لم يستشر في أمره غير نفسه و لم يرض إلا قائم السيف صاحبا
و ارفض في هذه العزيمة الدنيا و أربابها ، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم ، فنحن الأغنياء ،
و هم الفقراء .
كما قال إبراهيم بن أدهم ( : و لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه
بالسيوف. )
فأبناء الدنيا أحدهم لا يكاد يأكل لقمة إلا حراماً أو شبهة .
و هو و إن لم يؤثر فوكيله يفعله ، و لا يبالي هو بقلة دين وكيله .
وإن عمروا داراً سخروا الفعلة ، و إن جمعوا مالاً فمن وجوه لا تصلح . ثم كل منهم خائف أن
يقتل أو يعزل أو يشتم ، فعيبهم نقص .
و نحن نأكل ما ظاهر الشرع يشهد له بالإباحة ، و لا نخاف من عدو ، و لا ولايتنا تقبل العزل .
و العز في الدنيا لنا لا لهم ، و إقبال الخلق ، علينا ، و تقبيل أيدينا و تعظيمنا عندهم كثير .
و في الآخرة بيننا و بينهم تفاوت إن شاء الله تعالى .
فإن لفت أرباب الدنيا أعناقهم يعلمون قدر مزيتنا .
و إن غلت أيديهم عن إعطائنا فلذة العفاف أطيب ، و مرارة المنن لا تفي بالمأخوذ ، و إنما هو
طعام دون طعام ، و لباس دون لباس ، و إنها أيام قلائل .
و العجب لمن شرقت نفسه حتى طلب العلم إذ لا يطلبه إلا ذو نفس شريفة ، كيف بذل لبذل من
لا عزة إلا بالددنانير ، و لا مفخرة له إلا بالمكنة ، و لقد أنشدني أبو يعلى العلوي :
رب قوم في خلائقهم عرر قد صيروا غررا
ستر المال القبيح لهم سترى ـ إن زال ـ ما سترا
أيقظنا الله من رقدة الغافلين ، و رزقنا فكر المتيقظين .
و وفقنا للعمل بمقتضى العلم و العقل ، إنه قريب مجيب .
لا تنسونا من صــــــــــــــالح دعائكم
أخوكم العـــــــــــــــسلي