أولها: غم الذنوب الماضية، لأنه قد أذنب ذنبًا، ولم يتبين له العفو، فينبغي أن يكون مغمومًا بها مشغولاً بها.
الثاني: أنه قد عمل الحسنات، ولم يتبين له القبول.
الثالث: قد علم حياته فيما مضى كيف مضت؟ ولا يدري كيف يكون الباقي.
الرابع: قد علم أن لله تعالى دارين، ولا يدري إلى أية دار به يصير.
الخامس: لا يدري أن الله تعالى راض عنه أم ساخط عليه.
فمن كان غمه في هذه الأشياء الخمسة في حياته فإنها تمنعه من الضحك.
وعجبًا لمن يعرف أن الموت حق، كيف يفرح؟ وعجبًا لمن يعرف أن النار حق، كيف يضحك؟ وعجبًا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها، كيف يطمئن إليها؟ وعجبًا لمن يعلم أن القدر حق، كيف ينصب؟.
رأيت الدهر مختلفًا يدور *** فلا حزن يدوم ولا سرور
وقد بنت الملوك به قصورًا **فلم تبق الملوك ولا القصور
ونحن في هذه الدنيا لاهون ساهون هذا صوت ينادي.. صوت بلال بن سعد يقول:
يا أهل التقى إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما تنقلون من دار إلى دار، كما
نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا ومن الدنيا إلى
القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في جنة أو نار.
مراحل متتابعة.. وأزمنة متتالية، قطعنا منها مراحل عدة.. من الأصلاب إلى
الأرحام ومن الأرحام إلى الدنيا.. ها نحن نسير عليها، ننتظر النقلة التالية
إلى القبور.. ووالله نحن في غفلة وإلا كيف تحلو الحياة، ويطيب العيش،
ووراءنا القبور والموقف.. ثم الخلود.. أهوال وأهوال.
قال أبو بكر المروذي: دخلت على أحمد بن حنبل يومًا فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: كيف
أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان
يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك
الموت يطالبه بقبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة.
هذه الدنيا التي نحن نتكالب عليها.. ونتقاتل عليها.. لننظر الوجه المشرق لمن عرف قيمة الوقت في هذه الدنيا ..
يحدثنا أبو ضمرة عن صفوان بن سليم فيقول: رأيته ولو قيل له الساعة غدًا، ما كان عنده مزيد عمل.
أرى حللاً تصان على أناس *** وأعراضًا تنال ولا تصان
يقولون الزمان زمان سوء *** وهم فسدوا وما فسد الزمان
قال بعض السلف: من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه، فإذا ثبت صدقه، فهو مجنون.
لأن هذه الدنيا مزرعة الآخرة.. يتزود فيها بالطاعات والصالحات. وهو أحد
رجلين طالب دنيا، فكيف يبغضها وهو يسير في ركبها، ورجل آخر يطلب الآخرة،
فأنى له أن يبغض زمن الزرع ووقت العمل؟!
قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته.
وقال الفضيل بن عياض: العجب كل العجب لمن عرف الله ثم عصاه بعد المعرفة.
أهون بداركم الدنيا وأهليها ***واضرب بها صفحات من محبيها
الله يعلم أني لست وامقهـا*** ولا أريد بقاء ساعة فيها
لكن تمرغت في أدناسها حقبا***وبت أنشرها حينًا وأطويها
أيام أسحب ذيلي في ملاعبها***جعلاً وأهدمُ من ديني وأنبيها
وكم تحملت فيها غير مكترث***من شامخات ذنوب لست أحصيها
فقلت أبقي لعلي أهدم مـا ***بنيت منها وأدناسي أنقيها
من ورائي عقاب لست أقطعها**حتى أخفف أحمالي وألقيها
يا ويلتي وبحار العفو زاخـرة***إن لم تصبني برش في تثنيها
قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك في التوكل؟
قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فأطمأنت
به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت
يأتي بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه
جعل الله طريقنا في هذه الدنيا نهايته في جنات عدن،
وجعلنا ممن تزود في هذه الدار الفانية لدار فيها النعيم المقيم. والظل
الظليل وآباءنا وأمهاتنا وأقاربنا في مستقر رحمته وجعلنا من الذين لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون