الســـــــــــلام عليـــــــــكم ورحمة الله
لم يكن ليفرح الرسول صلى الله عليه وصحابته الكرام رضوان الله عليهم بقدر فرحتهم بقدوم شهر رمضان المبارك الذي ينتظرونه من العام إلى العام حيث تهفو إليه نفوسهم وتتطلع إليه أرواحهم المشتاقة إلى نسماته الرقيقة ونفحاته العلية فهو المحطة التي منها ينطلق المؤمنون من جديد وهو الطاقة التي يتشبع بها الطائعون والعابدون للاستعداد لرحلة جديدة يطول فيها السفر ويقل فيها الزاد وتكثر فيها العقبات والمزلات.
وعلى الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم لم يتوان ولو للحظة واحدة في أن يتعبد لله عز وجل وأن يكون جل وقته وحياته في غير رمضان في طاعته إلا أنه ما أن يقترب شهر الخير والبركات حتى يسارع صلوات الله عليه إلى أن يستحث صحابته في أن يكثروا من العبادات وعمل الصالحات لينالوا الرحمة والمغفرة التي هي عنوان هذا الشهر الكريم ومع ذلك فإن أيام رمضان لم تكن كلها سواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاله وحال صحابته في ثلثي الشهر يختلف عن حالهم في تلك العشر الأخيرة من رمضان وكأن لسان حالهم ينبأ عن توديعهم لحبيب غال دام انتظارهم له عاما وبالتالي فليس من المبالغة أن يكون وداعهم له عشرة أيام يجتهدون فيها قدر استطاعتهم في أن تتشبع أرواحهم من عبيره الصافي ليكون ذلك زادا ومعينا لهم طوال أحد عشر شهرا قادمة يغيب فيها عنهم.
القدوة النبوية
لعل ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من قولها: "كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر الأواخر شدَّ مئزرَه وأحيا ليلَه وأيقظ أهلَه" (رواه البخاري ومسلم) ..وقولها: "كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها" (رواه مسلم).. يجسد لنا وبشكل واضح تلك الحالة الطارئة التي يعلن عنها النبي الكريم في بيته وبين أهله في هذه الأيام المباركة معرفة منه صلوات الله عليه لفضلها وإدراكا لقدر ذلك الخير الكبير الذي ينتظر هؤلاء الذين وعدهم الله عز وجل لذاكريها وقائميها وعابديها.
وتتضافر العديد من الروايات لتؤكد هذه الحالة النبوية التي كانت ديدن الرسول الكريم كلما مرت عليه العشر الأواخر إذ يروي الترمذي من حديث زينب بنت أم سلمة أنها قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقى من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه " ويروي أيضا من حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان".
والمتأمل في الروايات السابقة يلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لينشغل بذاته فحسب ففي الوقت الذي كان حريصا فيه على أن يلزم نفسه بتلك الحالة الاستثنائية الطارئة وتنفيذ تلك الإجراءات الجديدة في الأيام الأخيرة من رمضان كان يحرص صلى الله عليه وسلم في الوقت ذاته على أن يلزم بها أهله فيوقظهم ليشاركوه في القيام والتهجد والتسبيح والاستغفار فيعم خير وفضل هذه الأيام على الجميع وعليه فإنها دعوة لكل رجل ولكل امرأة أن يجتهدوا قدر استطاعتهم في أن يستحثوا غيرهم من أهل البيت في أن يشاركوا في الطاعة والعبادة فتتحول كل بيوت المسلمين إلى بيوت إيمانية ما يجلب رضا الله ويرفع المحن.
ليلة القدر
ولما كانت لهذه الأيام الأخيرة من رمضان من خصوصية عند النبي صلى الله عليه وسلم فإن هيئة طاعته فيها لم تقتصر على الصلاة والقيام والذكر فحسب بل لقد استن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الاعتكاف الذي "هو قطع العلائق الشاغلة عن طاعة الله وعبادته" حتى لا ينشغل الرسول ومن تبعه من المؤمنين بأي شئ سوى الله عز وجل.
يروي ابن عمر – رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان" (رواه البخاري ومسلم) وتقول عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده " (رواه البخاري ومسلم).
وكان سبب اعتكافه صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام بالذات هو طلب ليلة القدر التي هي عند الله عز وجل خير من ألف شهر " إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر" فهي الليلة التي كان أول نزول للقرآن الكريم فيها وهي تعادل ثلاثة وثمانين عاما في أجرها وثوابها لمن فاز ببلوغها وإدراكها طاعة وتعبدا وذكرا لله تعالى لتكون بمثابة منحة ربانية لعباده المخلصين بأن يكون لهم أعمار غير أعمارهم التي عاشوها غير أنها هذه المرة كانت كلها في معية الله وإنشغالا به وحده سبحانه وتعالى فيتضاعف لهم الجزاء أضعافا وأضعافا ويكون ذلك في ذاته غفرانا لما اقترفته أيديهم طوال أعمارهم الحقيقية مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم :"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" (رواه البخاري ومسلم).
كما ثبت أن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" (رواه البخاري) ويروي أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ثم اعتكفت العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف". ( رواه مسلم).
وكان اعتكافه صلى الله عليه وسلم انقطاعا شبه تام عن الدنيا والحياة ولم يكن ليخرج منه إلا لحاجة ضرورية تستلزم ذلك الخروج يقول الله تعالى:" وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ" (البقرة: 187) كما ثبت أن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا" وقال العلامة ابن القيم : (وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سريره في معتكفه وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض وهو على طريقه فلا يعرج عليه ولا يسأل عنه). ويضيف (واعتكف مرة في قبة تركية وجعل على سدتها حصيراً كل هذا تحصيلا لمقصود الاعتكاف وروحه عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم فهذا لون والاعتكاف النبوي لون والله الموفق ) (زاد المعاد).
وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بهذه السنة التشبه بالملائكة الكرام في استغراق الأوقات في العبادة وحبس النفس عن شهوتها وكف النفس عن الخوض فيما لا ينبغي خاصة وأنه قد علم صلوات الله عليه أن الإنسان ينشغل بأحواله وبأمور دنياه أوقاتًا طويلة فلا أقل من أن ينقطع عن شواغله ويختلي بربه عشرةَ أيام في العام لينال فضلاً عظيما فينجوَ برقبته وينال العتق من النيران.
ولم يكن ليختلف الأمر مع صحابة الرسول الكريم فقد كانوا بقلوبهم الرائقة ومشاعرهم الجياشة وعزيمتهم الصادقة وهمتهم العالية يرقبون فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر حين يوقظ أهله ويشمر ثوبه ويحيي ليله كله وهو يجود بالمال كالريح المرسلة فيقتدوا به وكيف لا وقد قال الله عز وجل عنه : "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" الأحزاب :21 فكانوا يجتهدون بالقيام والذكر وقراءة القرآن فهم يستشعرون في هذه الأيام لحظة رحيل حبيب لطالما انتظروه بشوق عارم وبهجة جميلة وهو ما يجعل لكل لحظة في هذه الأيام الاخيرة قيمتها ومعناها الكبير.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة ثم يقول لهم الصلاة الصلاة.. ويتلو قوله تعالى :" وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى" طه:132 فيما ورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها.
فالعشر الآواخر فرصة لمن أضاع عمره في اللاشئ أن يستدرك ما فاته لعله يدرك ليلة القدر فإن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها ومن حُرِم خيرها فقد حُرم ..فهلا عزم هؤلاء العزيمة على أن يعودوا وينيبوا إلى الله وأن لا يستسلموا لإفراط قد فرطوه أو لذنوب قد اقترفوها مظنة أنه لا عودة ويستحضروا قول الله تعالى:"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" الزمر:53 فيكون نهارهم صياما وليلهم قياما فيه يبكون إلى الله ويتضرعون أن يغفر له خطاياهم وأن يحسن لهم خواتيم أعمالهم.