كــــــــــــأس ليمونادةتشبه حياتك كأسا من عصير الليمون.. كثير من الأيام العادية كالماء بلا طعم ولا رائحة،
وقليل من السرور له طعم السكر، مع بعض الحزن له لذعة الليمون.. خليط من هذا وذاك اسمه الحياة.
تحلم أحيانا ببعض السرور.. بمزيد من ملاعق السكر..
تنظر إلى كأسك الزجاجي في لوم.. وتود أن تغيره بكئوس الآخرين..
تتأفف من مذاق الليمون الحامض حتى لو كان خفيفا.. وتحلم بكأس من الشهد المصفى.
كأس جديدوفجأة تباغتك الحياة بشيء غير منتظر.. بأمر لم تكن تتخيل حدوثه.. بمحن لا يمكنك مواجهتها.. ليس المهم ما هي، المهم إحساسك بها، أنك لن تستطيع احتمالها، وحياتك لن تعود أبدا كما كانت.. امتلأ كأسك بالليمون الصرف الحامض، مر المذاق.
ويكون رد فعلك الأول هو عدم التصديق.. يستحيل أن تقسو عليك الحياة إلى هذا الحد.. أنت طفلها المدلل، بمنجاة عن تلك الكوارث، ومثل هذه المصائب تحدث للآخرين فقط.. كل ما هنالك خطأ بسيط سيتم تصحيحه فورا.
وتستيقظ في الصباح ناسيا كل شيء.. ثوان قليلة وتستحضر مصيبتك.. الواقع الذي لا يمكنك التكيف معه، وتود الهروب منه بأي ثمن.. تنخرط في أحلام اليقظة.. وتود لو تعثر على آلة زمن تعود بك إلى الماضي لتغيره، أو تحدث معجزة، أو تكتشف أنه حلم مزعج.. تتذكر كأسك القديم الذي لم يكن سيئا إلى هذا الحد.. ولا مرا كما كنت تزعم.. بل كان سروره أطول من حزنه.. وسكره غالب على ليمونه.
بعدها تغرق في حزن طويل، محاولا أن تتعايش مع الواقع، وتهضم الحقيقة..
لكنك لن تحطم كأسك الزجاجي لتريق ما تبقى من عصير الليمون.. وحينما يحاولون التسرية عنك فأنت تعرف الحقيقة.. الثقب أوسع من أي رتق.. والنسيان غير ممكن.. فقط تأمل في نعمة التعود التي يسمونها الصبر، وتقول يا رب.. إن كان ذنبا فعفوك أكبر.. أو عقابا فرحمتك أوسع.. أو اختبارا فكرمك أعظم.
كوكب الدموعوفي محنتك الكبرى تأسف أنهم لم يعلموك الحياة.. تركوك تصارعها وتصارعك.. تكابدها وتكابدك.. التحقت بالمدارس ولم تتعلم الحكمة..
درست الجغرافيا دون أن تحدد مكانك بالضبط،
وسمعت حكايات التاريخ ولم تأخذ عبرة..
وأتقنت دروس الجمع في الحساب ولم يخبروك ماذا تصنع وقت الطرح!..
تركوك تغوص في الطين وكلما حاولت الخروج تورطت أكثر، حتى أصبح الطين يزن عشرة أضعاف قدمك، ولم يعد الخلاص ممكنا إلا بالبتر.
ما زلت أخرق حتى هذا العمر.. الحكمة ليست أقراصا تبتلعها، أو دروس رجل عجوز.. أو تكتسبها من تجارب الآخرين.. لابد أن تمر بتجربتك الخاصة.. بعدها تصبح المعرفة كعدمها بعد أن فات وقت التصحيح.
وتشرد قليلا.. تفكر في هذا الكون.. ما حجمك من المكان وموقعك من الزمان؟.. أين أنت من كون يشتمل على أكثر من مائة مليار مجرة؟
وكل مجرة من مائتي مليار نجم، وحول النجوم كواكب..
كوكبك هو الثالث بعدا عن نجم اسمه الشمس.. كوكب أزرق ثلاثة أرباعه دموع.. وفي الربع اليابس كل تعاسة الكون، كأمواج بحر أبدي تصطخب الهموم فيه من عهد آدم إلى اليوم.
ويصيبك الزمان بالدوار.. منذ ثلاثة آلاف مليون سنة تكونت نقط هلامية في البحار الدافئة، اندمجت لتصنع كائنات رخوة..
منذ خمسمائة مليون سنة ظهرت ديدان البحر والنباتات الأولية..
منذ أربعمائة مليون سنة دبت الحيوانات فوق سطح الأرض،
ثم ظهرت الحشرات العملاقة وأشجار السرخس وضفادع في حجم العجل.
منذ مائة مليون سنة كانت هناك طيور بأسنان وزواحف طائرة،
ثم ارتطم مذنب بالأرض فتفجرت البراكين وانقرضت الديناصورات..
منذ ثمانين مليون سنة كان يوجد بط عملاق ارتفاعه ستة أمتار وخيول في حجم الثعلب!..
منذ أربعين مليون سنة ظهرت القطط والطيور العملاقة..
منذ خمسة ملايين سنة ظهرت الكلاب والطيور المعاصرة..
ثم ظهر الإنسان على وجه الأرض.. منذ مليون سنة كان جدك الأعلى يرقد على شاطئ البحر، يرمق النجوم البعيدة ويحلم.
إنما العمر ساعةوإذا لم تجد في انسحاقك أمام جبروت الزمان والمكان عزاء.. فلعلك تجده في الموت!.. في تحلل الجسد وانقطاع الوعي.. تغادر جسدك كما تغادر سيارتك..
ترقب اقتراب الموت وانطفاء النور وانتهاء الحياة.. كم تبعد الآن عن تلك اللحظة الفاصلة؟.. ساعات كالسنوات أم سنوات كالساعات!؟،
ثم تأتي اللحظة التي تهابها كل خلية في جسدك وكل نقطة دم.. لا عقل وقتها، بل غرائز بدائية.. بعدها ترقد على منضدة رخامية ويغلقوا عينيك.
****
ولذلك اعلم يا شارب الليمون، أيا كانت فداحة مصيبتك، إذا حسبت قامتك إلى
حجم الكون، وقارنت سنينك بعمر الحياة، وتذكرت الموت القادم بلا إبطاء عرفت
أنك لا شيء.. حزنك لا شيء، همومك لا شيء، سرورك لا شيء.. وقتها
يهون عليك كل ليمون العالم وسكره وأملا مخادعا نسميه الحياة.
****