بسم الله الرحمن الرحيم
المفكر الجزائري العالمي الكبير الأستاذ مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ نسق فريد بين جلّ المفكرين .. أو قل مدرسة متميزة لها بصماتها وخصوصياتها في فهم الأفكار وهندستها وتوظيفها في مجال البناء الحضاري ، ومعالجة قضايا الإنسان المسلم المعاصر ، خلال هذه الانعطافة التاريخية التي يعيشها ، والتي يميزها ـ أظهر ما يميزها ـ فقدان الفعالية والدور الحضاري لهذا الإنسان المسلم في الحياة المعاصرة ، وإن كان بن نبي يعتبر أن هذه الأزمة حصلت للإنسان المسلم منذ انتقال الشعلة الحضارية للإنسان الغربي ، وذلك منذ أفول دولة أو عصر الموحدين.
محطات في حياة مالك بن نبي :
ولد مالك بن نبي سنة 1905م بقسنطينة ، وكان والده يشغل منصباً بسيطاً لدى الإدارة الحكومية الإستعمارية الفرنسية بمدينة تبسة ، وهي المدينة التي أصبحت مقر الأسرة ، ومهد نشأة وترعرع بن نبي ، كانت أمه تشتغل بالخياطة قصد المساهمة في رفع المستوى المعيشي والاقتصادي للأسرة ، فقد كانت غالبية الأَُسَر الجزائرية في تلك الفترة الزمنية تعاني شظف العيش إلى جانب البؤس والحرمان ، جراء ما فرضته سلطات الاحتلال على الأهالي والسكان من إجراءات ومعاملات قاسية ؛ أُدخِل مالك بن نبي " الكُتّاب " لتعلّم وحفظ القرآن الكريم ومباديء الحساب واللغة العربية ، غير أنه ما لبث إلاّ قليلا حتى انتظم في المدرسة الفرنسية ، لكنه ظل يتردد باستمرار على الكتّاب ، وكذلك على المسجد العتيق ، وحضور أوقات الصلاة.
لوحظ على بن نبي ( الطفل ) ميل طافح ، بل ولع ظاهر ، إزاء حب التعلم والتعلق بالقراءة ، حتى أنه كان يتلقى دروسا إضافية ( تكوين داعم أو خاص ) في النحو والصرف والبلاغة والثقافة العربية ، على يد شيخ يدعى " عبد المجيد " كما كان حريصا على الاستفادة من الدروس والحلقات العلمية التي تدار في المساجد.
يقول الدكتور علي القريشي يصف هذه المرحلة في حياة بن نبي : " لقد أخذت آفاق ابن نبي تتسع في هذه المرحلة سواء عن طريق قراءاته الكثيرة أو مشاهداته الشخصية ، خاصة أن متابعته للصحف كانت تزيد من وعيه بتمزقات الواقع الاجتماعي. أما مشاعره الانتمائية فكانت تتجه نحو رجل الاصلاح المعروف الشيخ عبد الحميد بن باديس ، خاصة وقد زُرع هذا الميل في نفسه منذ كان صغيراً وهو يراه يقف في الشارع يحدّث الناس ، كما تميز سلوكه في هذه المرحلة بالميل الى الصمت ، وإيثار الوحدة على الاجتماع ، لكن إحساسه بآلام الواقع الذي فرضته الظروف الاستعمارية كان كبيراً ، لذا حين نشبت ثورة الريف اندفع يشارك رفاقه كتابةَ وإلصاقَ النداءات والبيانات المناوئة للمستعمِر المحتل . "
سفره إلى فرنسا :
في شهر سبتمبر1930م نزل مالك بن نبي بمحطة ليون بباريس ، وكان أول عمل قام به هو التسجيل بمعهد " الدراسات الشرقية " غير أنه لم يُوفّق في الانتساب لهذا المعهد. وقد حزّ ذلك كثيراَ في نفسه ، لسبب بسيط وموضوعي بتمثل في كون دواعي ذلك الرفض لا يخضع لأي معيار من المعايير التي سبق وأعلنها معهد الدراسات الشرقية ، وعن هذه الحادثة يقول بن نبي " لم يتم قبولي بالمعهد ،لأن الإنتساب للمعهد بالنسبة لمسلم جزائري لا يخضع لمقياس علمي ، وإنما لمقياس سياسي ".. لكن بن نبي وُفّق في الدخول الى " مدرسة اللاسلكي " لدراسة الهندسة الكهربائية ، وفي الحي اللاتيني الذي كان يقيم به العرب والمغاربة خاصة ، كان بن نبي يجدّ في نشر الوعي الصحيح ، لاسيما فيما يتعلق بالاصلاح والبناء الحضاري والوحدة المغاربية ـ من منطلق دعوة الشمال الإفريقي للتكتل ضد الاستعمار ـ بل والوحدة الإسلامية الشاملة ، التي وجد بن نبي فيما بعد في صيغة استراتيجيا " دول عدم الإنحياز " تمهيداً لها أو تحقيقاً جزئياً ومرحلياً لبعض أهدافها ، لكن من منظور استراتيجي آني ، كما يتضح ذلك على الأقل في كتابين للأستاذ بن نبي ، الكتاب الأول " الفكرة الإفريقية الآسيوية " والثاني " فكرة كومنولث إسلامي " .
في فرنسا أيضا أتيح له التعرف على العديد من الزعماء والفلاسفة والمفكرين ، كما توطدت صلته ببعض رموز الاصلاح والدعوة والعلم ، كان أبرزهم الشيخ الدكتور محمد عبدالله دراز ، الذي أنجز أطروحة جامعية في السوربون ، بعنوان " دستور الأخلاق في القرآن " وهي مطبوعة في كتاب ضخم . كما قابل في سنة 1936م الوفد الجزائري الذي ذهب إلى باريس ليطالب السلطات الفرنسية بالمشاركة البرلمانية ، وكان على رأس هذا الوفد الشيخان المصلحان عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي.
ولم تنحصر جهود بن نبي التربوية والاصلاحية والفكرية على منطقة باريس لوحدها ، بل كثيراً ما كان يسعى لتوسيع دائرة تلك الجهود ، منها على سبيل المثال ، إقدامه على فتح مدرسة في الجنوب الفرنسي لمحو الأمية وتعليم العمال الجزائريين المغتربين؛ واعتراض السلطات الفرنسية على ذلك ، لكن بحجج واهية مفضوحة. يقول عنها بن نبي " وفي سنة 1938م أسست بمدينة مرسيليا مدرسة للأميين في سن متقدم من بين إخواننا العمال المشتغلين بفرنسا ، فدعتني الإدارة المختصة ومنعتني من أواصل التدريس في هذا المعهد البسيط بدعوى أنه ليس لديّ المؤهلات !! ".
.......................................................................................................يتبع.